يبدأ التفكير في المشروعات وتمضي كالقدر الذي لا تستطيع قوة إيقافه؛ فعند القدر يعمى البصر وتنغلق الآذان. وهكذا فكل الكوارث الكُبرى المعروفة اصطلاحًا باسم “مشروعات كبرى” يبدأ تنفيذها دون أي اعتبار للأصوات التي تعارضها بإخلاص عاقل.
مشروع توشكي، مثلاً، حذر منه أكبر متخصص مصري هو الراحل رشدي سعيد ومع ذلك وقع علينا كالقدر، وحتى الآن لم نعرف سر الإصرار على ذلك المشروع؟ هل هي سياسة طبخ الأحجار للرعية حتى تنسى ضيق حياتها وتنتظر الخير القادم؟ هل هي مقاولات الحفر الكبرى؟ هل هي الرغبة في السمسرة في الأرض؟
هذا التذكير ضروري، مع استيقاظ مشروع مفاعل الضبعة. وإن كان الأمل في التمهل لمزيد من الدراسة يبدو من رابع المستحيلات؛ فمشروع الضبعة يحمل في داخله أسبابًا للعناد تفوق الأسباب التي أوجدت توشكي، فقد بدأت فكرة الضبعة كرافعة سياسية تعطي دفعة جماهيرية لنظام مبارك، حيث تم تصوير المشروع باعتباره حالة من التحدي لإسرائيل والقوى الدولية التي تترصد أية دولة عالم ثالثية تتطلع لامتلاك التكنولوجيا النووية. وعلى الجانب الآخر كان قطاع من المعارضة سعيدًا بالمشروع كنوع من استخلاص مساحة لمشروع قومي من شاطيء المتوسط الذي احتلته القرى السياحية!
وبين هؤلاء وهؤلاء كانت قلة من الأصوات تحذر من المخاطر في وقت بدأت فيه الكثير من بلدان العالم تعيد النظر في هذا النوع من الطاقة بسبب مخاطره. وقد تناولت هذا الملف مرارًا في هذه المساحة، كما تناولها الدكتور محمد المخزنجي المبدع، والطبيب، وصاحب الخبرة الشخصية إذ عايش انهيار تشرنوبيل ويتابع المآسي الإنسانية التي لم تزل تظهر في المواليد. ولسنا وحدنا، إنما ذكرت المخزنجي كمثال.
ومن الغريب أن يُعاد تنشيط المشروع بخطوات عملية، في ظرف تغيرت فيه أوضاع الطاقة، حيث انخفضت أسعار البترول إلى النصف، وهي مرشحة للهبوط أكثر، لولا العناد السياسي بين المنتجين الذين لن يتمكنوا من الصمود فيه طويلاً، كذلك فإن الاكتشاف المصري للغاز يجب أن يجعلنا نفكر مرة أخرى، علمًا بأن اكتشافنا السعيد ستتبعه اكتشافات أخرى عندنا وعند غيرنا، فقد تطورت وسائل التنقيب، وفي القريب سيكون لدى العديد من الدول حقولها التي تكفي استهلاكها.
هذا عن الجانب الاقتصادي للمشروع، وفيما يخص الجانب العلمي باعتباره فرصة لامتلاك التكنولوجيا النووية في مجالات أخرى؛ فلدينا بنيتنا القديمة التي يمكن أن تفيد في الاستخدامات الطبية وغيرها. ثم نأتي إلى الأهم ، وما يجب التفكير فيه بأمانة وهو المستوى المهني المصري والمستوى الاجتماعي الذي يكبله.
المستوى المهني نعرفه ويبدد راحتنا في كل ما ننظر إليه، ابتداء من البالوعة المرتفعة عن مستوى الرصف وانتهاء بمظر مقدمي الخدمة وأدوات المائدة في مطاعم غالية السعر، مرورًا بالطبع بسرعة تدهور المباني والأتوبيسات الجديدة التي تحمل عناوين التميز وتنتهي خرقة كغيرها !
وليس بعيدًا عن هذا هناك المستوى الاجتماعي الذي لا يمكن تغييره بين يوم وليلة ويساهم في تدهور العديد من المشروعات الجديدة التي تتحول إدارتها إلى الطريقة التواكلية، ولا يمكن التخلي عنها بدون حداثة اجتماعية حقيقية وشاملة.
لنفكر مثلاً في شكل الأمان في المفاعل خلال ساعة إفطار الصائمين وفي أوقات الصلاة ومباريات الأهلي والزمالك ووقت القيلولة، ووقت حجر الشيشة أو الجوزة. ماذا لو أغلق الحارس المفاعل وذهب للتسوق؟!
هذه التساؤلات ليست محاولة لتسفيه القضية، بل من صلبها، فانتبهوا يا أولي القرار.
______________________________________________________
كتبت هذا المقال ظهر الأحد، قبل أمطار الإسكندرية، التي تكشف خطورة انعدام المهنية والانضباط على مشروع بحساسية مفاعل نووي.
http://www.almasryalyoum.com/news/details/833531