دوستويفسكي ..الخجل الصاخب!

  كتب دوستويفسكي روايته الأولى في شكل رسائل بين موظف كهل فقير هو ماكار دييفوشكين وشابة شديدة الفقر تسكن بالقرب منه هي فرفارا دوبروزيولوفا، بينهما نوع خاص من الحب لا نجده سوى في روايات دوستويفسكي، فالحب عاطفة من التضامن والتضحية المتسامية فوق طبائع البشر، كلا الحبيبين يشعر بالخجل من فقره ويضحي من أجل الآخر ويسليه بحكايات عن زملاء في السكن أكثر فقرًا. 

تحكي فرفارا لماكار عن بوكروفسكي، الرجل الهرم الذي يأتي أحيانًا لزيارة ابنه باتنكا الذي يعيش في كفالة صاحبة البناية بسبب فقر الأب المسكين، وتصفه لماكار هكذا: «يوحي إلى من يراه من أول نظرة أنه خجل من شيء ما أو أنه مرتبك بنفسه ضيق الذرع بشخصه، فكأنه يجعد جسمه ويلويه عامدًا حتى لا يراه أحد ـ  الفقراء، ترجمة د.سامي الدروبي» 

وفي «الجريمة والعقاب» يعود إلى وصف التعبير الجسدي للخجل من الوجود الذي وصفه في «الفقراء» فكان راسكولنيكوف ينكمش تلقائيًا ويتحدب ظهره كلما نزل إلى الشارع. كان طالب الحقوق المنقطع عن دراسته يعاني فقرًا شديدًا، يعيش على ما ترسله والدته من عائد عمل شقيقته خادمًا، وتتعرض للتحرش من السادة.

  قبل «الجريمة والعقاب» كان قد رواية كاملة لتقليب وجوه تلك الرغبة في الاختفاء، وهي بدورها ليست رغبة بسيطة خاملة، بل مشاعر نشطة متناقضة بين الخجل من الوجود والرغبة بالوجود!

 بطل رواية «في قبوي» شخص وجودي عازف عن الحياة، لكنه عزوف العاتب، لأنه يحبها على نحو ما ويحب أن يكون موجودًا. تريحه العزلة، لكنها تشعره أحيانًا أنه مجرد حشرة لا يشعر بها الكوكب الصاخب، فكان يغادر قبوه بين الحين والحين، يتمشى في الشارع ليرى البشرية المقيتة الحبيبة عن قرب، ويشعر بمعنى ما أنه موجود. 

  ذات يوم يتطلع إلى نافذة حانة، فيرى بالداخل معركة بعصي البلياردو، ويرى ضابطًا يحمل أحدهم ويلقي به من النافذة إلى الشارع؛ فيفتنه المشهد، ويتمنى أن يحظى بمثل ذلك الغضب. وهكذا يقرر أن يتسلل إلى مكان المعركة، ويتسكع أمام الضابط المعتدي فإذا به يتجاهله، أو تقريبًا لم يشعر بوجوده. ويحس البطل المعتزل بالإهانة الشديدة لهذا التجاهل، فيجمع المعلومات عن الضابط، يعرف أماكن سهره ومواعيد تريضه، ويواظب على التقاطع معه ويفتعل الاصطدام به أكثر من مرة، لكن الضابط يتفاداه في كل مرة دون أن ينتبه إلى وجوده، فيعزو ذلك إلى رثاثة مظهره الذي يجعله غير موجود بالنسبة للآخرين؛ فيعمد إلى اقتراض المال وتغيير ياقة فرو الفأر في معطفه بياقة كاستور ألماني لكي يبدو شخصًا ذا حيثية، ويراه الغريم الافتراضي، ولكن دون جدوى.

   دوستويفسكي المستكشف الأعظم للمنابع البعيدة لأنهار القلوب لا يعرف المشاعر البسيطة. كل شعور يستدعي نقيضه، ثم تستدعي هذه المواجهة بين الضدين شعورًا أو سلوكًا ثالثًا يستدعي بدوره نقيضًا. الحب يستدعي الكراهية، ثم يحيل إلى التضحية التي تصبح وجهًا آخر للإهانة، وهكذا!

 نرى مشاعر مركبة من الحب والبُغض لدى متلقي الإحسان تجاه المحسن إليه. تعي فرفارا أن قريبتها، التي آوتها وأمها،  لم تفعل ذلك إلا كي تهينهما، وكي تتباهى بإحسانها إلى قريبتين فقيرتين أمام معارفها، لكنها في لحظة أخرى تقدر إحسان تلك القريبة.

  يعود الكاتب لاختبار تلك المشاعر المتناقضة تجاه الإحسان في «مذلون مهانون» عبر علاقات مركبة، أبرزها علاقة الطفلة صونيا بالراوي الكاتب إيفان بتروفتش. لقد تأثر الكاتب بشدة لوضع الطفلة الصغيرة التي صارت وحيدة بعد أن فقدت أمها ثم جدها، أنقذها من مخدومة تعاملها بوحشية وأخذها لتقيم معه. وصلت الفتاة محمومة قريبة من الموت، ومع ذلك تشعر بخجل شديد كونها عالة وتقوم وسط مرضها تنظف الغرفة وترتبها، وظلت عصبية طوال الوقت، تبدي له مشاعر تتناقض بين الحب والكراهية، الامتنان والثورة دون سبب، ولم يكن من السهل عليه فهم تقلبات الصغيرة التي تنبع من إحساسها بالإذلال تجاه مساعدته وتريد أن تكون نافعة في كل وقت.

  دوستويفسكي الذي وصل إلى أبعد نقطة مظلمة في نفس الإنسان وضع أيدينا على نوع من سلوك الخجولين يختلف تمامًا عن سمات الخجل التي يصفها علم النفس: الصمت واحمرار الوجنتين وارتباك الخطو والكف عمومًا عن المبادرة!

  الخجول لدى دوستويفسكي نشط، صاخب، يسعى إلى التصعيد حتى يجعل من الإذلال الذي يشعر به فضيحة. مارماليدوف  رجل الحانة الذي يلتقي به راسكولنيكوف مصادفة، مدمن فاقد القدرة على الإقلاع، يحكي عن عاره لكل من يقابله. يفرض ثرثرته على راسكولنيكوف العائد مخذولاً من عند المرابية العجوز؛ فنعرف أن لدى مارماليدوف أربعة أبناء، ثلاثة من زوجته الحالية كاترينا، والكبرى صونيا من زوجة سابقة، ونعرف أن كاترينا  أجبرت ابنته صونيا على البغاء، مع ذلك لا يسبغ عليها دوستويفسكي الشر التقليدي المطلق لزوجة الأب، الذي نراه حتى في قصص الأطفال؛ ففي أول يوم عادت فيه صونيا بالمال ودفعت به إلى كاترينا، إذا بالمرأة المعوزة المتحرقة إلى هذا المال تتركه يسقط على الأرض وتجلس تحت قدمي صونيا تقبلهما وتبكي، ثم تصعد معها على سريرها وتحتضنها وتنخرطان معًا في البكاء حتى تناما على هذه الوضعية الحزينة.

  وفي «الأخوة كارامازوف» أخذ الوالد فيدور يطوف الإقليم شاكيًا عاره للجميع كرجل مهان هربت زوجته مع عشيق (كان لا يتورع أن يقص عن حياته الزوجية تفاصيل لابد أن يحمر المرء خجلاً من قصتها. وأغرب ما في الأمر أنه كان يجد نوعًا من اللذة في أن يمثل أمام الملأ هذا الدور المضحك/ الأخوة كارامازوف).

 وإذا كان في هذا الموقف يتلذذ بالألم، فهو يحاول إيلام السادة المهذبين في غرفة الراهب زوسيما بالدير، بتصعيده من الكلام غير اللائق في مكان مقدس، ويحاول أن يرى أثر كلامه على الشيخ المفعم بالسكينة «تكلم أيها الشيخ العظيم، قل: هل تؤذيك حرارتي؟». ويلتقط الراهب الخبير بالنفس هذا النزوع لدى الرجل المجروح الغاضب، فيرد: «أرجوك ملحًا ألا تقلق وأن لا تتحرج. لا تُكره نفسك على شيء، وتصرف كما لو كنت في منزلك، وإياك أن تشعر بالخزي من نفسك خاصة؛ فإن شعورك بالخزي من نفسك هو بعينه أصل البلاء». هذا التسامح من الراهب جعل فيدور يهدأ ويكشف خطته، معترفًا بأنه لم يمارس التهريج إلا لإيلام الحاضرين، الذين يراهم شرًا منه وأجدر بالاحتقار، ثم، وكأنه يعيد ما قاله زوسيما: «إنني أهرج لشعوري بالخزي، لشعوري بالخزي وحده، إنني أعربد لإحساسي بالارتياب الدائم».

  ليس بعيدًا منه تقف كاترينا إيفانوفنا، الفتاة الجميلة، التي تربطها بديمتري علاقة معقدة. لجأت تلك الشابة إليه لتقترض أربعة آلاف روبل ناقصة من عهدة والدها الضابط، والتي كان يمكن بسببها أن يتلوث بفضيحة الاختلاس. يساومها ديمتري على شرفها فتقبل، لكنه يثوب ويقرضها المال بشهامة. وهذه إهانة مركبة، من الاستغلال في بداية الموقف والشفقة في آخره. بعد ذلك عادت تلح عليه بحبها، منجذبة إلى إهانتها وليس إلى شهامته أو إلى عاطفة الحب ذاتها، وأخذت تقدم التنازل تلو الآخر دون أن تبالي بأن تدهورها صار حديث المجتمع. 

   وبعد أن هبطت عليها ثروة بالميراث من قريبة رحلت تظاهرت بأن قريبة أخرى في موسكو بحاجة إلى المال، وأعطته ثلاثة آلاف روبل ليوصلها إلى السيدة المحتاجة، وهي تعرف تمامًا أنه سيبددها في القصف واللهو. وقد  نجح الفخ. أنفق ديمتري المال ونال احتقار نفسه ونالت كاترينا إيفانوفنا قصاصها!

 في الرواية مثلث  عشق غريب بين ديمتري وامرأتين: كاترينا وجروشنكا. ولم يكن حبًا أو عشقًا ذلك الذي يجمعهم، بل صراع مستعر طوال الرواية يحاول فيه كل طرف أن يثبت أنه ليس الأوضع. وظل الرجل يتخبط بين المرأتين طول الوقت، منجذبًا إلى وضاعته، تقيده كاترينا بنبلها ويرغب في جروشنكا لأنه يراها وضيعة مثله، وكاترينا مشدودة إليه بثأر الاحتقار والإحسان، وتريد أن تحتقره وتحسن إليه، ولم تبال بتلوث شرفها في هذه العلاقة، حتى لقد صارت صورة أخرى من جروشنكا. وجروشنكا لم  تحبه بحق لأنها اشتمت في حبه رائحة الشفقة عليها بسبب ماضيها.

الضعف، السقوط، وتصاعد الخجل بسبب ذلك محرك أساسي في سرد دوستويفسكي، وهو الذي يجعل من علاقات الحب الدوستويفسكية الأغرب في تاريخ الأدب كله.

  • نشر المقال ضمن ملف شامل عن الخجل في مجلة القافلة، الرابط:
  • https://bit.ly/3iWmnW6