حالة «كامل رؤبة لاظ» العجيبة

هل كان كمال عبدالجواد مجرد مثالي منفصل عن الواقع، أم كان يعاني بعض الحياء، أم مريضًا بالخجل؟ لا يستطيع علم النفس أن يجيب بسهولة لأسباب منها أن كمال مثقف واع بذاته، وقد اتخذ من المثالية قناعًا جعله يترفع عما لم يستطع الوصول إليه.

كل ما نعرفه حقيقة هو أن حياة أصغر الأبناء في ثلاثية نجيب محفوظ لم تكن سهلة، أفلتت منه فرصة الحب العميقة، ووجد مبرره في العبارة التي يحفظها القراء ومشاهدو الفيلم الذين لم يقرأوا الرواية: «الذين يحبون لا يتزوجون»!

الشاب المثقف الذي تمكن من نشر مقالات فلسفية ممهورة باسمه في مجلات فكرية محترمة لديه تقدير عال لنفسه يفرض عليه الحرص على صورته لدى الآخرين وهذا سبب مهم من أسباب الخجل، وأهم منه سطوة الأب الساحق وما يوقعه في نفس كمال الرقيق من إحساس بالإذلال، حتى عندما صار شابًا لم يُقدِّر كتاباته، بل سخر منها ومن اختياره النبيل لمهنة التعليم.

ظل كمال يناجي عايدة شداد في خياله أربع سنوات، دون أي تقدير لذاته في مواجهتها، وصار برومانسيته محط سخريتها وسخرية عائلتها التي تنتمي إلى الطبقة الرأسمالية الجديدة في مصر في ذلك الوقت. اختارت عايدة زميله وغريمه العملي حسن سليم زوجًا لها. وكان ذلك سببًا لانقلاب كمال على نفسه وإدمانه الحانات، حتى ليقترب من صورة أبيه وسيرة أخيه الأكبر ياسين!

قلة من قراء نجيب محفوظ يمكنهم أن يلاحظوا أن كمال عبدالجواد هو النسخة المعدلة من كامل رؤبة لاظ بطل رواية «السراب». ولنتأمل الصلة بين الاسمين (كامل وكمال) وعلاقتهما معًا مع معنى الكمال في مفارقة ساخرة بين الاسم وواقع العجز الذي يعاني منه البطل.

يتشابه البطلان تشابهًا كبيرًا، ليس بسبب نضوب مخيلة الكاتب، ولكن لأن محفوظ ككثير من الكتاب الكبار يعود إلى الشخصية أو حتى الموضوع ليقدمه من زاوية أخرى، وغالبًا ما تكون العودة بسبب وجود مسافة ما بين طموح الكاتب والصورة التي خرجت عليها الشخصية أو الموضوع، وأحيانًا ما تكون الإعادة رغبة ذاتية في الفهم بتقليب الموضوع الواحد على أكثر من وجه.

وقد فعل محفوظ الشيء ذاته عندما أعاد موضوع «أولاد حارتنا» في «الحرافيش» ومن الواضح أن النتيجة كانت لصالح الحرافيش، لكننا لا نستطيع أن نجزم بأن المقارنة بين كامل رؤبة وكمال عبدالجواد محسومة لصالح كمال، فشخصية كامل رؤبة شخصية أصلية لا يمكن لتاريخ الأدب أن يغفلها.

ربما عاد نجيب محفوظ إلى معالجة الخجل المرضي في الثلاثية من أجل أن يختبر موضوعه النادر في شخصية كمال عبدالجواد ليرى إن كان التعليم الجيد والثقافة الرفيعة مجديين في تجاوز هذا المرض الاجتماعي، موليًا المزيد من العطف لأولئك «الذين يسعون في الأرض غرباء مذعورين، وقد بلغ منهم الذعر أحيانًا أن يخبطوا على وجوههم كالمحمومين فيدوسوا بأقدامهم المتعثرة ضحايا أبرياء – السراب» ربما عاد لتناول الظاهرة ليعارض ما وضعه على لسان كامل رؤبة في إطار جلده لذاته، فهم لا يستحقون الاستئصال، بل العطف!

شخصية كامل رؤبة من أغرب الشخصيات الروائية ومن أكثرها إتقانًا وإقناعًا فنيًا. تصرخ بمأساة الشخصية التي تعاني من الخجل المرضي بأكثر مما تفعل شخصية كمال عبدالجواد.

نُشرت «السراب» عام ١٩٤٨ قبل الثلاثية بثمان سنوات. والغريب في تلك الرواية أن محفوظ يُسمي الخجل مرضًا في ذلك الوقت المبكر. والرواية في مجملها مغامرة فكرية وفنية، تومئ إلى الكثير من المفاهيم النفسية كعقدة أوديب، كما نرى فيها الكثير من الأفكار عن الحياة والموت والبعث، خصوصًا ما جاء على لسان الأب السكير، الذي نلمس فيه بعض التقاطع مع صورة «فيودور» والد الأخوة كارامازوف.

«السراب» مروية كلها بصوت واحد هو صوت كامل في شكل مذكرات يكتبها، كأنما ليفسر لنفسه حياته العجيبة الغريبة المليئة بالكف والإحجام عن اتخاذ قرار بسبب الخجل، فعاش حياته هاربًا من كل شيء، وتسبب في موت زوجته التي أحبها حبًا ملائكيًا وأمه التي أوقفت حياتها عليه!

وتمكن نجيب محفوظ من الاحتفاظ بفضول القارئ على الرغم من أن جميع الأحداث والشخصيات تُقدم من خلال بطلها الراوي الوحيد، وهو يروي من لحظة النهاية التي وصل إليها.

كامل ابن زيجة قصيرة غير موفقة، عاش مع أمه وأبيها الضابط المتقاعد، وتلقى تدليلاً فائقًا منها لأنها حُرمت من أخيه وأخته الأكبر منه اللذين أخذهما الأب السكير المستهتر طبقًا لقانون الأحوال الشخصية، حيث كانت حضانة الأم تنتهي عند بلوغ الطفل التاسعة في ذلك الوقت.

نال كامل حدًا مفسدًا من التدليل، حتى أنه لم يغادر فراش الأم إلى سن كبيرة، كان بينهما تضامن حزين وخوف من الفراق، إذ يمكن للأب أن ينتزعه منها بمجرد أن يكمل التاسعة مثلما انتزع شقيقه وشقيقته، لكن أباه أوغل في الضعف وخور العزيمة فلم يطالب بكامل. وواصلت والدته حمايته بحب امتلاك غير واع، حتى أنها صورت له الأطفال أشرارًا يحسن تجنبهم بعد أول تجربة شجار له مع أترابه.

من الواضح أن هذه الحماية الزائدة وحب الأم الاستحوازي هما سبب الخجل المفرط الذى عانى منه كامل، لكننا لا يمكن أن نغفل العوامل العكسية تمامًا النابعة من غياب الأب عمليًا، لكنه ليس ميتًا ليشكل مجرد نقص في حياة الطفل، بل موجود على مقربة، بما يجعله مصدر تهديد دائم ومصدر خزي بسلوكه غير السوي اجتماعيًا. 

تسبب الخجل المفرط في عجز كامل عن التفاعل مع الآخرين، وبالتالي تعثَّره في دراسته، حتى رأى المدرسة جحيمًا لا يلقى فيه سوى إذلال المعلمين وتنمر التلاميذ. ولولا إصرار أمه وجده على تعليمه لما تجاوز المرحلة الأولى، لكنه أخذ يتقدم بصعوبة، كل سنة دراسية يتخطاها في عامين حتى وصل إلى البكالوريا رجلاً في سن الخامسة والعشرين، والتحق بكلية الحقوق، لكنه فوجئ فيها بمؤتمر الخطابة، حيث لابد لمن سيعمل في النيابة أو المحاماة أن يكون خطيبًا مفوهًا. عندما نادى الأستاذ اسمه وقف خائر القوى عاجزًا عن الحركة، وران الصمت دقائق حتى استجمع نفسه وخرج صوته ضعيفًا: «لا أستطيع» ثم أطلق ساقيه للريح، ولم يعد للجامعة مرة أخرى.

تمكن جده من تدبير وظيفة صغيرة له في أرشيف وزارة الحربية عبر وساطات لدى تلاميذه ومرؤوسيه السابقين. وبينما كان جده يهنئه بالوظيفة التي تعني أنه صار رجلاً ويمكنه أن يفتح بيتًا بعد ذلك، كان الشاب يشعر بالرعب ويفكر كيف سيواجه الموظفين الآخرين، لكنه لم يجد بدًا، وبدأ يذهب إلى عمله بالترام، وذات يوم يلمح أثناء انتظاره على المحطة فتاة في نافذة البناية المقابلة للمحطة فيهيم بها هيامًا أخرس. 

يومًا بعد يوم، صار يعرف كل شيء عنها، واكتشف أنها تستقل الترام كذلك فبدأ يشاركها العربة على مقربة صامتًا، وعرف أنها طالبة في مدرسة المعلمين، وصار واضحًا لها ولكل أسرتها أنه عاشق، دون أن يتقدم خطوة طوال نحو عام، حتى بدأت تتجنب طريقه وتغلق النافذة أو تغادر الشرفة كلما رأته يتطلع إليها وتتحاشى اللقاء به على المحطة، ولم يجد حلاً لمعضلته سوى الاتجاه إلى الحانات!

ولم يجده ذلك، إذ أعاره الشراب شجاعة تكفي لجعله يخاطبها في خيالاته فحسب، وكان يأمل أن تتخذ هي خطوة فتدخل في أحلامها لتسمع مناجاته التي لم تخرج من رأسه «إني أحبك يا حياتي، أحبك حبًا هو من أعاجيب الكون كدوران الأفلاك سواء بسواء ولشد ما أريد أن أقول لك أحبك في يقظتي، ولكني لا أستطيع، إن الخجل أبكم يا حياتي، والفقر سجن شاهق الجدران، ولاحق لامرئ لا يملك من مرتبه إلا جنيهًا ونصفًا أن يبوح بحبه لملاك كريم مثلك». استخزاء من النفس يشبه استخزاء كمال عبدالجواد من أنفه الكبير ومن فقره أمام ساكنة القصر وتعظيمه لها: «الله في السماء وعايدة في الأرض»!

لا تخلو «السراب» الرواية القاتمة من لحظات فكاهة يجيدها الكاتب الكبير، حيث سيلتقي العاشق الخجول بعاشق خجول آخر، في مباراة مثيرة للابتاسام والأسى!

من بداية مراقبته للفتاة، لاحظ كامل أن هناك رجلين أكبر منه سنًا يلاحقانها، وصار مشغولاً بهما حتى بادره أحدهما على محطة الترام بالكلام، ودعاه إلى مقهى ليتحدث معه دقائق «في أمر هام». وأخذ الوجل يعربد في قلب كامل، هل الرجل منافس له حقًا أم والد أم قريب للفتاة لا يعجبه تلصصه عليها؟ عندما جلسا في المقهى قدَّم له الرجل نفسه «محمد جودت مدير أعمال بوزارة الأشغال» فوقعت كلمة مدير من نفس كامل موقعًا مخيفًا. ثم حدَّثه الرجل بالمواربة في أول الأمر: «رأيتك تبدي اهتمامًا خاصًا بشخص ما».

نرى في المشهد أن المدير الكبير يجهل اسم الفتاة مثله مثل كامل، ويشير إليها بالآنسة، ثم سأل كامل إن كان في نيته التقدم لخطبتها، فأجابه كامل جازمًا: «ليس لي بها أية علاقة» ولابد أن يستدعي هذا الموقف التنازل السريع من كمال عبدالجواد عن عايدة شدَّاد: «أهنئك يا حسن أنت جدير بعايدة وعايدة جديرة بك».

أحس كامل بالراحة عقب إنكاره الاهتمام بالآنسة، وأحس أنه برده أعفى نفسه من اتخاذ قرار، ولم يلبث أن أحس للحظة بالزهو والسعادة عندما اكتشف أن الرجل أكثر خجلاً منه وأكثر جبنًا، حيث صارحه محمد جودت باهتمامه بالفتاة وارتياحه لزوال العقبة، وأنه صار بوسعه الآن أن يتقدم لخطبتها.

يُعلِّق كامل: «تناوبتني أحاسيس متباينة، شعرت أول الأمر بعذاب لا يوصف، ثم داخلني سرور خفي، لأني أيقنت أن الرجل الذي يخاطبني رعديد مثلي وإلا لشق طريقه إلى بيت حبيبتي دون أن يعبأ بي، بل أيقنت أنه يخاف مني، فأرضى هذا غروري إرضاء خفف عني بعض ألمي، ثم وجدتني مدفوعًا إلى الكذب بقوة لا تقاوم، فقلت بيقين: لو فكرتُ فيما تقول ما منعني مانع من طلب يدها من زمن طويل!». لكنه يعاني حقيقة من العي والحصر، يكفه الخجل، وقد تعلل في البداية بصغر مرتبه، وبعد أن مات والده وتلقى ميراثه سقط سور الفقر، ومع ذلك ظل يدور حول بيت حبيبته، يبكي عجزه: «ربما كان بوسعي أن أقضي العمر على هذا «الطوار» باكيًا، أما عبور الطريق وطرق الباب فمالا أستطيع»!

وفي مصادفة داخل عربة الترام وجد نفسه في مواجهتها، وفاتحها بعد أن كادت روحه تُزهق خجلاً. وبسرعة تمت الخطبة ثم صارت رباب جبر زوجته. لكن خجله وقف بينهما دون أن تكون به علة جسدية، وبالمصادفة وجد رجولته مع أرملة قبيحة، بينما أخطأت رباب وماتت في محاولة إجهاض فاشلة على يد شريكها، وهو طبيب شاب من عائلتها، وتحت تأثير حزنه على رباب يتشاجر مع أمه التي لم تتقبل فكرة زواجه، وتموت الأم بأزمة قلبية، لهذا بدأ كامل تدوين سيرته حانقًا على نفسه، داعيًا إلى استئصال أمثاله من الخجولين لصالح سلامة المجتمع كما تُقلَّم الأشجار لتتخلص من الأغصان الضارة!

في تلك الرواية تبدت معرفة نجيب محفوظ بالفلسفة وعلم النفس، موغلاً إلى أعمق المشاعر التي لا يبوح بها البشر حتى لأنفسهم، مشخصًا مثل محلل نفسي بارع أحاسيس الندم والإذلال التي يشعر بها الخجول عقب كل إخفاق في مواجهة الحياة.

ـــــــــــ

*نشر المقال في مجلة القافلة، ضمن ملف «الخجل»:

https://qafilah.com/الخجل/