الحدود تهجر الخريطة لتسكن القلوب

ضحايا الحرب المجنونة غادروا دفء بيوتهم ليجدوا أنفسهم ضحايا سوء الفهم وسوء النوايا
ضحايا الحرب المجنونة غادروا دفء بيوتهم ليجدوا أنفسهم ضحايا سوء الفهم وسوء النوايا

خلال عشرين يومًا استعملت التاكسي في شوارع روما بما يجعلني مطمئنًا لنتيجة استفتائي بين السائقين، وهي مهنة أصبحت تضم شرائح متنوعة ومستويات مختلفة من الثقافة في ظل صعوبة الحصول على وظيفة في روما والكثير من العواصم.

 أغلبية من تحدثت معهم واثقون من أن الإرهاب مؤامرة أمريكية، هدفها استغلال ثروات النفط وتحطيم أوروبا. معظمهم يتخوفون على أرزاقهم من اللجوء السوري. لكن سائقًا بينهم فاجأني بغضبه؛ حيث يعتقد  أن أوروبا تكافيء المسلمين الذين يذبحون الكاثوليك في سورية!

صاحب كشك صحف مصري، رأيت أمامه كتابًا جديدًا للمصري الأصل مجدي علام “مجدي كرستيانو” وسألته: هل كتبه لم تزل توزع الكثير؟ أجاب: أبدًا، لقد انكشفت لعبته، ولم يعد أحد يصدقه. ثم شرع يحكي لي عن مقال كتبه كرستيانو يتهم إمامًا في روما بالداعشية. وقال إنه كان حاضرًا خطبة الجمعة التي تحدث عنها الكاتب، ولم يكن فيها أي تطرف، ثم أضاف: “لكن الخطيب شديد شوية، واحنا بصراحة هنا، الواحد مننا محتاج قلمين على قفاه يمشي عليهم من الجمعة للجمعة، لأن أبواب الانحراف كثيرة” ثم شرع يشرح كالمنتصر، كيف أننا نحن المسلمين لم نعد بحاجة إلى الإرهاب؛ فأوروبا أصبحت عمليًا مسلمة بالهجرات التي تكللت بالخروج السوري الكبير.

لا السائقين الإيطاليين ولا البائع المصري رأوا مأساة بشر أجبرهم الفزع على ترك دفء بيوتهم إلى مذلة اللجوء. المشكلة أصبحت دينًا في مواجهة دين. وسوء فهم للقضية وسوء تقبل عميق بين السائق الإيطالي وبائع الصحف المصري اللذين يعيشان في المدينة ذاتها، ويتكلمان اللغة نفسها.

فوضى المشاعر هذه أخطر من فوضى الإرهاب، وهي الثمرة المرة لحقبة من العبث بالحدود وصلت ذروتها. ومن الواضح أن الحدود كانت الشيء الذي يضمن السلام العالمي.

أول رصاصة ضد الحدود أطلقتها عولمة زعمت أنها تبشر بحرية الانتقال بين أقاليم القرية العالمية الواحدة. لكن الحرية اقتصرت فقط على حرية نزح الأموال من الجنوب الفقير إلى الشمال الغني، أما حرية انتقال الأفراد فقد اقتصرت على حرية سفر سكان الشمال جميعًا، أما سكان الجنوب فتتوقف حرية سفرهم إلى الشمال على وضعهم المادي، فإذا لم يكن طالب السفر مليارديرًا تضمنه ملياراته التي سبقته إلى بنوك سويسرا؛ فعلى الأقل لابد أن يقدم ما يثبت حجز الطيران والفنادق، أي أن يكون زبونًا مستهلكًا في الحد الأدنى.

ومع سقوط الاتحاد السوفيتي اهتزت خريطة أوروبا بعنف، وتموجت الحدود كصورة في عمق ماء تتلاطم موجاته. وانخرطت روسيا وشرق أوروبا  في الرأسمالية الواضحة، بينما أخذت الصين تبني في السر كنيسة الرأسمالية داخل جدران البيت الشيوعي، وفرحت الرأسمالية بتوحيدها العالم!

تحقق الانتصار النهائي الذي بّشر به فوكوياما، وأصبحت القرية الكونية كلها رأسمالية، فيها كبار يقتسمون التوابع الصغار، وتتداخل مصالحهم إلى درجة تجعل الحديث عن صدام روسي غربي أو صيني غربي ضربًا من الجنون. وقد ظهرت النتيجة في رد الفعل الغربي على التدخل الروسي في أوكرانيا ثم سورية.

 تتعايش المصالح بين الكبار فيما يبدو إلغاء كليًا للحدود عندما يتعلق الأمر بساندويتش هامبرجر، أو سيارة مرسيدس، أو زجاجة فودكا؛ تسافر من واشنطن أو برلين أو موسكو إلى القاهرة أو دمشق أو تونس، لكن ليس لهذه التوابع أن تتطلع للحرية؛ فعند هذه اللحظة تصطدم الرؤوس المنتفضة بالحدود اللامرئية، هكذا كان تحويل وتجري تصفية التمرد بضراوة. هكذا تم تحويل مسار الربيع العربي إلى حرب مجنونة يجب أن تدوم أطول فترة ممكنة.

وإن صحت التخمينات التي تقول بأن الترحيب الألماني باللاجئين السوريين سببه رغبة في ضخ دماء شابة تحتاجها ألمانيا العجوز، سنكون بصدد عملية إتجار بالبشر، تشبه تجارة الأعضاء البشرية، بعد استنفاد الثروات المادية للمنطقة منذ حرب الخليج الأولى.

لكن الرأسمالية التي ترقص على إيقاع الفوضى وتجني أرباح بيع السلاح، لا تعرف أن سقوط حدود دولة واحدة يتبعه إقامة ملايين الحدود في القلوب. وستكتشف أن انتصارها الباهر لم يكن إلا هزيمة منكرة للبشرية كلها.