الخجل، مقال المُساق من إحباط إلى آخر!

فرحة الحزين، أطفأها الفرحون بجشعهم
فرحة الحزين، أطفأها الفرحون بجشعهم.

كتبت هذا المقال في “القدس العربي” قبل أن أُقلع عنها. اللقاء والمقال كانا عقب 30 يونيو 2013، كتبته بروح الخارج من معركة مثخنًا بالجراح، دون زهو النصر، إنما بخوف من الوجه الآخر الذي نرى اليوم.

على رصيف مقهى سوق الحميدية جلسنا ولم نبك.

الشابان بهاء طاهر وصبري حافظ والكهول محمد بدوي، سيد محمود، وحيد الطويلة، وأنا، قبل أن يلتحق بنا أشرف يوسف ووجدي الكومي. جلسة ما بعد خيبة، وما بعد غيبة؛ فكان من الطبيعي أن نبتسم.

نعم، ابتسمنا، وربما ضحكنا، رغم اختلاف التفاصيل في الضحكة والابتسامة لدى كل منا: حجم الأمل لحظات الكلام،  حجم الألم الذي يستشعره كل منا ويحاول أن يزنه في روحه خلال فواصل الصمت، ربما بسبب تقليب الذاكرة في تفاصيل عام من الفاشية الفاشلة، وربما بفعل الأسى على ما كان من تاريخ المقهى نفسه، وقد غاب عنه فاروق عبدالقادر أكثر أبناء جيله صرامة وعنفًا ومحمد البساطي الأكثر رقة وآخرون من قبلهم ومن بعدهم.

ماض حلو تسرب من بين الأصابع، وآخر ثقيل نفضناه من حياتنان وحاضر يتعثر في ذيل خيبة الفاشية الدينية الآفلة؛ فإلى أي حد سنخرج مجروحين من موسم جني الأشواك؟ إلى أي حد يمكن أن تستقر فاشية جديدة مناقضة، إلى أي حد يمكن للمجتمع أن يحافظ على إنسانيته في ظل تواصل صرخات الثأر؟

هل من الممكن أن ينتهي كل هذا ويعود الموت حدثًا استثنائيًا يختص به ملاك الموت وحده عندما لا يكون هناك مجال للحياة؟ هل يمكن أن يعود المصريون إلى الروح واعتبار العبث بالدم خطيئة كما كان دائمًا؟

هل حقًا سيكون للثقافة دور في المرحلة القادمة، كما يأمل ويتمسك محمد بدوي؟ هل قصرت النخبة حقًا؟ ـ إذا ما فرضنا جدلاً بقاء هذه الكلمة صالحة لوصف فئة من الناس ـ هل التقصير نتيجة قصور في المهارة وافتقاد لغة الخطاب مع الأغلبية أم قصور في الأدوات والوسائل المادية في مقابل تفوق تيارات التأسلم بحكم بساطة خطابها وانتفاخ جيوبها وجيوب داعميها؟!

ثمة خجل من تسمية “النخبة” ثمة شك لابد أن يكون انتاب معظم من يحسبون على هذه الفئة من البشر منذ 25 يناير إلى اليوم. ثمة أصوات تتحدث عن الاكتساح الجماهيري لكل الأفكار. لكن ذلك الإصرار على هزيمة الفكر إن لم ينطو على نوايا سيئة، فهو نتيجة سوء فهم مروع. لم يكن الفكر في يوم من الأيام وسيلة للتعبئة والتجنيد إلا في ظل أيديولوجيات العمر القصير. الفكر عدو التلقين، عدو الاستدعاء العاجل لمعركة.

الفكر هو الماء والهواء الصالح لبناء حياة عادية، وليس أنابيب المحاليل والأكسجين في غرف الإنعاش. حراك الجماهير الفرنسية قادها إلى تلمس النار بأصابعها، لم يكن عقد روسو الاجتماعي حاضرًا في أي من هبّات الثورة الفرنسية، لكنه حضر بعد هدوء العواصف ليضع الأساس المتين لمعنى الديمقراطية.

من الطبيعي ألا يكون الفكر حاضرًا في لحظات الصدام، لكن المثقف كان حاضرًا بجسده مثل أي فرد آخر. نسبة المثقفين المشاركين في الاحتجاجات الجماهيرية أعلى من نسبة المشاركين من أية فئة أخرى، لكنهم ليسوا رقمًا كبيرًا في المجتمع، وهذا لا يبرر جلد الذات أو أن يكون المثقف هدفًا للتعيير من فئات تستهدف دوره وقت السلم ووقت الحرب.

أعداء الثورة لا ينسون ـ ولو نسي المفكرون أنفسهم ـ أن الثوار الذين ملأوا الميادين لم يصبحوا هكذا فجأة بدون المرور على كتب أجيال من الكتاب، من طه حسين ويوسف إدريس ونجيب محفوظ وبهاء طاهر وصنع الله إبراهيم حتى طارق إمام.

بهاء وصنع الله وإبراهيم عبد المجيد وغيرهم من الأحياء من مختلف أجيال الكتابة المصرية لم يغادروا الميدان، لكن الواحد منهم يزيد على الثائر الذي يليه في الميدان بالأحبال السرية اللامرئية التي تمتد منه إلى غيره من المجاورين له الذين قد لا يتعرفون عليه وسط الزحام، وبهذا المعنى فالثائر الكاتب هو الثائر الذي وقف في ميدان التحرير بالقاهرة وميدان الشهداء بالسويس والشون بالمحلة الكبرى في ذات الوقت.

النخبة اشتغلت قبل الزمان بزمان، وعليها أن تواصل العمل من أجل ترميم ما انكسر، وأول ما يستحق الترميم هو الذي انكسر بداخلها. لا مجال للشك في جدوى الكتابة، ولا مجال للخجل الذي يغلف حتى الابتسامة، والذي رأيته في اثنين تمكنا من صنع المعجزة، أي كتابة ونشر كتاب في هذا الزمن الصعب.

في مظروف مغلق، تلقيت في تلك الجلسة رواية وحيد الطويلة “باب الليل” ومجموعة وجدي الكومي القصصية “سبع محاولات للقفز فوق السور” تمريرًا هادئًا حذرًا كما لو كان الكاتب يعتذر: سامحوني، لقد كتبت في هذه الظروف الصعبة!