تٌشبّه سوزان سونتاج الضغط على زر الكاميرا لالتقاط صورة بالضغط على زناد البندقية لإصابة هدف. وفي كتابي “الأيك في المباهج والأحزان” كتبت فصلاً كاملاً بعنوان “خزين الذكريات” في ذم عملية التصوير التي تقتل اللحظة لتخلدها؛ فنحن نسافر في عطلاتنا ونعود بحصيلة ضخمة من الصور، لا نجد الوقت لكي نطالعا، بعد أن تكون قد حرمتنا من عيش اللحظة وتأمل جماليات المكان بهدوء.
وقد وضعت شركات الهاتف المحمول إمكانية التصويب على الغير في يد كل مستخدمي التليفون في البداية، عندما أضافت
الكاميرا الخلفية إليه، ثم طورت الاختراع بالكاميرا الأمامية التي تتيح للإنسان التصويب ضد نفسه!
اللقطة التي وجدت اسمها في selfie الإنجليزية المرنة سريعة التوليد، صارت طاعون العصر، لأنها تقتات على النرجسية بكل رعونتها، وليس على ولع الامتلاك؛ الذي تحيا به الكاميرا الخلفية المصوبة نحو الأشياء والأشخاص الآخرين.
ومثلما اكتشف نرسيس نفسه في مرآة الماء، مهتزًا وزائلاً، اكتشف إنسان الـ selfie نفسه في شاشة هاتفه. وبينما كان نرسيس وحيدًا أمام النهر، فإن نرجسية العصر الحديث لا تشترط الوحدة. يتأبط الإنسان نرجسيته مطوية كمظلة حتى بين الجماعة، وسرعان ما يفتح مظلته ويستثير بنرجسيته نرجسياتهم، فيتلاصقون من أجل “سيلفي جماعي”.
حلت الصورة الثنائية والجماعية محل العبارات الفارغة التي يتبادلها الناس لكسر الجمود، مثل “يبدو أنها ستمطر” أو “كم يبدو الجو خانقًا” بل تذهب اللقطة السيلفي بحميميتها أبعد كثيرًا، إذ تكتمل حميمية التلاصق لحظة التصوير بتبادل العناوين الإلكترونية لإرسال الصورة، ولا أحد يضمن أن تكون رسالة الصورة ورد الشكر آخر العلاقة بين الطرفين.
هددت الحميمية الرعناء للسيلفي أوباما بالعودة من جنوب أفريقيا وحيدًا من دون ميشيل، عندما جلس مع ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني وبينهما رئيسة وزراء الدانمارك هيلي ثورننج شميت، متشاغلين عن قداس وداع مانديلا، يتبادلون التقاط الصور متلاصقين.
عبرت ميشيل عن غضبها بحركة أنثوية خالية من الدبلوماسية، حيث انتقلت لتفصل بين زوجها والمرأة الأخرى. وتلقفت الصحافة الشعبية والمواقع أزمة السيلفي ولم تخمد القصة إلا بعد نشر غسيل الأسرة في الصحافة الصفراء. اشتكت ميشيل من أنها ليست المرة الأولى التي يتجاهل فيها أوباما حضورها أو يتصرف بشكل يجرحها في المناسبات العامة.
سرقت لقطة العابثين الثلاثة الاهتمام من كل الصور التي تم التقاطها لجنازة العصر، ما دعا مصور وكالة الأنباء الفرنسية إلى إعلان احتقاره للبشر. روبرتو شميديت التقط مع فريقه 500 لقطة من جنازة الزعيم الإفريقي الأكثر نبلاً، لكن سلسلة لقطاته لصراع السيلفي صارت الأشهر، مما عده شميديت انعكاسًا لعار الجنس البشري.
لابد أن ملايين من المشاهدين لهم نفس رأي روبرتو شميديت، وأبدوا امتعاضهم من ابتذال مناسبة العزاء بالابتسامات المتبادلة بين الرجلين المتنافسين على الاقتراب من القطة الدانماركية. لكن، الرأسمالية لا تأبه لمثل هؤلاء الممتعضين، وليس من أجلهم تعمل، بل من أجل مليار من البشر تابعوا بفضول خال من الأحكام الأخلاقية نزق السيلفيعلى مستوى القمة. لم تفوت شركة آبل المناسبة وأعلنت عن تطوير جديد تدخله على الكاميرا الأمامية من أجل التقاط “سيلفي” أكثر وضوحًا.
والمتابع للصراع المحموم بين شركات الهواتف المحمولة يجد التنافس متركزًا في جزء كبير منه على تطوير إمكانيات الكاميرا. وكادت هذه الشركات تنهي بسباقها عصر الكاميرات الشخصية التي لم تعد قادرة على ملاحقة التصعيد في دقة كاميرات الهواتف، تمامًا مثلما يهدد الفيسبوك باختفاء البريد الإلكتروني، لأن موقع التعارف الاجتماعي يقدم إمكانات متعددة تتجاوز التواصل الوظيفي الذي يقدمه البريد الإلكتروني.
ونحن نعرف أن فكرة الفسبوك نفسه قامت على ولع طالب أمريكي بصورة إحدى زميلاته، أي أن الموقع يدين بفكرة وجوده للفوتوغرافيا. وهناك عدد كبير من مستخدمي الفيسبوك لا يجيدون التعبير بالكلمات، ويركزون في تفاعلهم مع الآخرين على الصور التي بدورها تستدعي غمزة فإعجاب فتعليقًا لفظيًا؛ فرسالة أكثر خصوصية في صندوق الرسائل.
يتلصص الساعون للتعارف على الصور، وينصبون شراكهم لتصيد الجنس الآخر بأجمل صورهم، وأحيانًا بإثارة الفضول من خلال التخفي خلف صور المشاهير أو صور للوحات فنية. وربما كان الرجال أكثر تفحصًا لصور الرجال، وكذلك تدقق الأنثى في صور الإناث أكثر من تدقيقها في صور الجنس الآخر.
المثليون يطاردون صور من يرغبون، والمولع بأنثى يقتفي أثر زوار صفحتها الرجال، كذلك تفعل الأنثى مع صور زائرات صفحة رجلها. وهكذا لم تعد نهاية علاقة مرهونة بصورة للحظة منسية تقفز صدفة من حقيبة مسافر أو بلقطة “سيلفي” قليلة الحكمة في ذاكرة الكاميرا الديجيتال، بل بإشارة Like يضعها زائر دءوب أو زائرة على صورة لم يلتق أو تلتق بأصلها أبدًا.