الشيف الساخر

فتح لنا الخادم الباب، وعاد لالتقاط زبائن جددًا، لكننا كنا آخر نجاحاته في تلك الليلة كما اتضح فيما بعد. قادتنا سيدة الاستقبال التي تصلح ملكة لبريطانيا تجدد شباب المملكة المتحدة، تركت لنا اختيار الطاولة المناسبة، هي الثالثة التي انشغلت في تلك الليلة. اخترنا مثل الآخرين طاولة لصق زجاج الواجهة النهرية. وجاء رئيس النُدل يسأل إن كنا نريد شراب الاستهلال، أومأت له موافقًا فتراجع منحنيًا، وعاد بعد قليل بزجاجة شمبانيا، أخذ يشهدني على نوعها وعمرها. وكانت هذه هي اللحظة التي آخت بين نصّاب الشوارع الفقير وبين المطعم الفخم. وانتصب الحاجز الصلب بيني وبين المكان كمقصلة.

جاءت النادلة السمراء البيروفية بقائمتي الطعام وابتسامة هي الأقل ادعاء من بين كل ما حولنا. وبينما  أتسلم قائمتي من يدها، نظرت في عينيها بتمهل أثار غيرتك. ولم أقل لك بمَ كنت أفكر في تلك اللحظة. القليل من الغيرة لا يضر، بل من أجل هذا يخرج العشاق إلى الفضاءات العامة، فمع كل نظرة اشتهاء من عين غريبة يرتفع الشريك في عين شريكه درجة؛ فلا يعودان من السهرة إلا مشتاقين.

الآن أستطيع أن أقول لك ما هممت بقوله للنادلة. كنت أريد أن أسألها عن ماريو فارجاس يوسا. هل قرأته؟ كنت أريد أن أسألها كيف وهي ابنة البلاد الحارة مثلنا تطيق العمل في مكان مدع إلى هذا الحد؟! أردت أن أقول لها إن أعظم أدباء قارتها كانوا يتبادلون في باريس عظمة واحدة، يغليها أحدهم ليصنع مرقًا ثم يمررها إلى جاره، حتى لا تعود تعكر الماء، بشهادة أعذبهم في الكتابة جابرييل جارسيا ماركيز.

الآن، لا أذكر ما أكلته، لكنني أتذكر طبقك، لأنه كان صادمًا للنظر بشكل لا يُنسى. كان عبارة عن قطع من الخضار المسلوق، يمكن تبينها من قعر السلطانية الزجاجية، إذ ترقد مبللة تحت كومة من كتل الفحم الهشة تشبه الأحجار الخفيفة التي تنثرها البراكين حولها. بحثنا عن البيروفية الجادة فلم تجدها عيوننا وجاءنا نادل آخر، أنت التي سألتيه عن ذلك الأسود: هل هو للأكل؟ احتار الشاب الألباني وقال سأسأل الشيف، وعاد بالجواب: إنه للتزيين، لكن لا ضرر من أكله. وما هو؟ عدت لتسأليه، فقال إنه خبز محروق.

أتذكر بالمقابل طبقي الحلو، لأنني اخترته من اسمه الفخم “حساء المركيز” وجاء الحساء، فماذا كان؟!

قطعة من أسوأ آيس كريم يمكن أن تجده في إيطاليا راقدة تحت طبقة منفوشة من لباب الخبز. بقية الرغيف الذي زين طبقك الرئيسي.

مثل هذا الطاهي، كان بوسعه أن ينفق طاقة سخريته في كتابة عظيمة، ولم ينته إلى هذا المكان إلا بسبب فساد الواقع الأدبي المغلق على عصابة محدودة العدد من الكتّاب والناشرين. من المفترض أننا غير معنيين بالأسباب التي دفعته للعمل طاهيًا،  المهم ألا يكون قد وصل معنا إلى الحد الذي بلغه روبرت دي نيرو بائع الوجبات السريعة في فيلم “كازينو” عندما كان يبصق في السندويتش قبل أن يسلمه مع ابتسامة لشرطي لا يحب أن ينفق نقوده في أمور تافهة كهذه. لكنك توافقينني على أن تلك لم تكن سخرية، كان انتقامًا، ونحن لم نفعل للشيف الساخر في المطعم المدعي ما يستدعي الانتقام.

عندما خرجنا كنت مشتاقًا لأن أطبخ لك بيدي، لأقنعك بفضائل الواقعية المطبخية. والآن أشعر بالرغبة نفسها، لكنك بعيدة.

حساء الماركيز، شوربتنا
حساء الماركيز، شوربتنا