المواطن المسن والمواطن الواعي في الواقع الضرير

old man 2
أين يعيش المواطن المسن وكيف؟ من الذي يساعده في بقية العام عندما يعود جنود تأمين الانتخابات إلى ثكناتهم؟

في الدقائق الأولى من اليوم أعيش حالة برزخية لا أفرق فيها بين الواقع وبين ما يراه النائم، إلى أن تنضج القهوة وأشرع في شربها ليبدأ  الخروج الآمن إلى الصحو.

وعلى غير عادتي في احترام جلال الصمت في تلك الدقائق،  فتحت التليفزيون صباح أمس الأول، فرأيت أغنية “انزل” التي تحاكي “بشرة خير” في كلماتها ولحنها. الأغنية تطلب من البحيري والصعيدي النزول للتصويت.  وبعد الفاصل الحماسي،  بدأ لقاء مع الأستاذ حسين عبدالرازق القيادي المخضرم بالتجمع،  وكان يُعلق على الانتخابات.old man 3

ولطالما كانت لحزب التجمع الديمقراطي ملاحظات على الانتخابات منذ زمن الأسرات بالدولة المصرية القديمة، بينما كانت الانتخابات تجري في الواقع بين الحزب الوطني والإخوان، في ظل حضور ذيلي لمعارضة شبه علمانية تتمثل في الوفد والتجمع وبعض الأحزاب الفكهة غير الجديرة بالذكر، وفي غياب الناخب، سواء نادته الأغنية بالحسنى أو هدده رئيس لجنة الانتخابات بغرامة الامتناع عن التصويت.

علم أم حلم؟ حزب التجمع موجود على الشاشة متمسكًا بهامشه العزيز، بينما تجري المنافسة بين السلفيين الذين سيلعبون دور المعارضة الدينية بدلاً من الإخوان، وبين الحزب الوطني المستغني عن اللافتة اعتمادًا على قوة الأمر الواقع.

لم تساهم القهوة في إيقاظي ونقلي من برزخ الحلم في النوم المشوش إلى الصحو الكامل استعدادًا لمغادرة أمان البيت إلى جهاد الشارع فالمكتب، لأن التغطية الإعلامية انتقلت من الاستديو حيث يقعد القيادي الإخواني لتعرض اللقطات الحية من أمام اللجان، وهناك كان الماضي حاضرًا بالقوة نفسها: جندي يخف كالعادة لمساعدة مواطن مسن حرص على الإدلاء بواجبه الانتخابي رغم ظروفه الصحية، ومواطن واع يتحدث عن آماله لشكل برلمان ومواصفات نائبه، على الرغم من علم المراسل ومذيع الاستديو والمواطن الواعي بأن مواصفات البرلمان ومواصفات النائب سبق تحديدها بدقة قبل التوجه للصناديق من خلال الإجراءات الأولية التي طاردت هذا التيار الوطني في حارة وأطبقت على تلك القائمة في زقاق.

فارت القهوة واندلقت، لأنني انشغلت عنها بمتابعة كل العُهدة خرجت من المخازن. الأستاذ حسين عبدالرازق يتحدث، لأن الزمن لم يزود التجمع بشاب يمكن أن يحمل عن الرجل الفاضل هذا العبء، والمراسل يتجاهل حقيقة الإقبال المحدود ليتحدث عن النظام وعدم التدافع، والمواطن المسن ظهر في لقطة صامتة كبقية العهدة من الأختام والحبر الفسفوري والصناديق.

وقد عشت أحلم بأن تكمل الكاميرا جميلها وتقدم للمشاهدين يومًا غير انتخابي من حياة المواطن المسن. أين يعيش وكيف؟ من الذي يساعده في بقية العام عندما يعود جنود تأمين الانتخابات إلى ثكناتهم؟ هل لديه أبناء وأحفاد؟ ولماذا تركوا العجوز وحيدًا؟ هل صوتوا في لجان أخرى أم تركوا مهمة بناء المستقبل عبئًا على الجد؟

الإعلام ـ الذي ينتج الأغاني ـ  يرفض فك غموض الحياة غير الانتخابية للناخب العجوز الوحداني، مسئولو الانتخابات لا يكفون عن تهديد الناخبين المقاطعين بالغرامة؛ لأن الامتناع عن التصويت موقف مثله مثل التصويت، والقوى شبه العلمانية تصر على البقاء ذنبًا لجسد عجيب. والفئة الغالبة (التي لا تعرف أن الرباعية التونسية الفائزة بنوبل تجمع لقوى نقابية وسياسية وليس امرأة ) لا يمكن أن تفهم أن تصحير الحياة السياسية يهدد وجودها لا يدعمه.

وإعداد فنجان ثان من القهوة بدلاً من الذي فار، مهمة سهلة، لكنها لا تضمن الخروج الآمن من الواقع الضرير إلى مستقبل كنا نرجوه.

old man