زعزعت الوسائط الإلكترونية مكانة المكتبة العامة، لكنها لم تمسس مكانة المتاحف، ربما لأن طبيعة اللوحة والتمثال بوصف كل منهما أصلاً وحيدًا تختلف عن طبيعة الكتاب متعدد النسخ حتى قبل اختراع المطبعة؟
هناك العديد من الاختلافات. الحرف يرمز لمعنى خارجه، بينما يمثل الخط واللون علامة مستقلة تحمل معناها في ذاتها، ومن الحكمة رؤية رسالة الفنان كما هي وليس صورة عنها. والقراءة في جوهرها فعل فردي أصله العزلة، والمكتبة تمثل خروجًا على هذا الأصل بسبب استحالة امتلاك القارئ الفرد لكل الكتب، لكن الرؤية البصرية فعل تجوز فيه المشاركة بل تحبذ، ولهذا السبب تحديدًا يواصل المسرح والسينما حياتهما إلى جانب الراديو والتليفزيون.
ربما علينا أخيرًا أن نفكر في عائق اللغة الذي يحول بين الغريب وبين ارتياد سينما ومسرح بلاد أخرى، بينما لا يوجد مثل ذلك العائق مع الفنون الجميلة.
لكل هذه الأسباب تبقى المتاحف المكان الثاني بعد المطارات مكانًا للتمازج بين العابرين وبينهم وبين أهل البلد. وقد كان هاجسي منذ بداية الاستعداد لرحلة إلى بلجيكا وهولندا زيارة متحفي اثنين من مجانين البلدين: ماجريت (1898-1967) وفان جوخ (1853-1890) وقد بدأ تمارينه على الرسم في أكاديمية بلجيكية كذلك.
متحف ماجريت عمره أربع سنوات فقط، وكأنها محاولة متأخرة من بلجيكا لاعتماده عنوانًا وطنيًا بعد أن عاش بوصفه أحد عناوين الحقبة الأوروبية السيريالية، بينما فان جوخ مستقر من بدايته عنوانًا هولنديًا.
في المتحفين مجد الفنان؛ دقة التنظيم، وفرة الوسائط الاتصالية الشارحة، دلائل الوجود الإنساني للشخص من أدواته إلى مراسلاته وصوره الفوتوغرافية، وفيهما كذلك مجد المجتمع الذي يجعل الفن أحد مفردات الحياة اليومية.
اللوحات الإرشادية في محطات القطار والأتوبيس، تشير إلى الخطوط التي تقود إلى المتاحف، زيارات المدارس لا تنقطع. صحيح أن مدارس بلادنا تضع المتاحف على جداول زياراتها، لكن التلاميذ يذهبون غالبًا مع معلمين لم يتعلموا حب الفن ولا يعرفون عن المتحف أكثر من الأطفال الذين خرجوا لحراستهم وضبط حركتهم!
لا يخرج المسافر من مكانه إلا ليقع ضحية في أسر المكان العابر، وحينما تكون المقارنة ليست في صالح مكانه الأصلي يصيبه السفر بالأسى.
على أية حال، ممتع أن يجد المرء نفسه في مواجهة لوحات عرفها في مجلدات مطبوعة، وأخرى يراها للمرة الأولى، إذ لا يستطيع أي مجلد أن يحوي سيرة حياة فنية تنوعت عطاءاتها بين اللوحات والرسوم الصحفية بل والإعلانات التجارية وأفيشات العروض الفنية وأغلفة الكتب. تبدو لوحات ماجريت مفكرًا فيها لذلك فالعنوان جزء منها، بينما تكمن السخرية في لامنطقيتها، كأن تنبت أعضاء المرأة الحميمة في وجهها أو يتمرأى الرجل فيرى قفاه لا وجهه، أو يقف كوب الماء فوق المظلة، ولا تعكس ألوانه المشرقة أية سوداوية في الروح أو حيرة أو ارتباطًا واقعيًا بشتاء بلجيكا المعتم، فالواقع بالنسبة له غير ما نراه. وهذه إحدى أفكاره الأساسية التي طبقها حرفيًا سواء بغرائبية اللوحة أو باستخدام الكلمات لتغيير ما ترمي إليه كما في لوحتي التفاحة والغليون المصورين بواقعية بينما كتب تحت كل منهما: “هذا ليس غليونًا، هذه ليست تفاحة”.
على الرغم من غرابتها تبدو لوحة ماجريت فوتوغرافيا لأصل مفقود، نعتبره خرافيًا لأننا لم نره، وعلى النقيض التام معه يقف فان جوخ حيث يمكن أن نلتقط في هولندا إلى اليوم فوتوغرافيا تصلح أصلاً للوحاته، باستثناء مشاهد البؤس في المناجم والقرى التي اختفت من أوروبا الحديثة، ولا يمكننا الاستدلال عليها سوى في فوتوغرافيا متحف التاريخ الوطني. أصبحت الوجوه الممصوصة والأجساد الهزيلة المغبرة والمتغضنة من قسوة البرد ذكرى من الماضي، وقد حدث هذا التطور المذهل في قرن واحد.
على عكس ماجريت ترك فان جوخ الطبيعة ترسم معه. الضوء شحيح والألوان كتيمة في اللوحات التي رسمها في هولندا بينما تتجه اللوحة إلى الإشراق كلما توغل جنوبًا في فرنسا حتى لترقص فرحًا في اللوحات التي استوحى فيها الفن الياباني عندما كان إغواءً عامًا بين مجايليه الأوروبيين.
وليس في هذا الإشراق تتجلى عبقرية فان جوخ، بل تحديدًا في اللوحات المعتمة التي لا تخلو من نقطة نور تلمع بالأمل، بينما لا تفعل ذلك سماء ماجريت الزرقاء المشرقة فوق رأس تمثال دام.