ليتك كنت معي الآن.
غادرت بالأمس الضيافة الفندقية إلى شقة، سأستعيد واقعيتي لمدة أسبوعين، بعد خمسة أيام من التمثيل.
حياة افتراضية خفيفة؛ لكنها ليست لي. بين الندوة ولقاءات العشاء المُرتبة بعناية الآخرين وبين افتراضات الحياة في الفندق؛ حيث مسخ البيت في الغرفة وجيرانها الغرباء، تمثيل الأكل في المطعم، تمثيل المجتمع في البهو البارد.
سأبدأ على طاولة الطعام الصغيرة في هذه الشقة كتابة الرواية الجديدة. هي مناسبة تمامًا لذلك، فهي أقل من مستوى الشارع بطابق من جهة المدخل، لكنها من الجهة الداخلية تطل على حديقة جميلة. وكما تعرفين، لن تأتي الكتابة إلا بعد أن أجعل من هذه الشقة العابرة بيتًا، أي أن أتنفس فيها رائحة الورد والطبيخ. الليلي الأبيض المبتهج والمتفاخر هو الخيار الأول في الورد أنى وُجد. ومن الطبخ، سأختار أنواعًا من العينات التي ابتهج لها لساني في الفندق دون أن تخوض فيها أصابعي أو أشبع منها، وفاء للإيتيكيت الفندقي.
بعد تناول قهوتي وإفطار خفيف في البار هذا الصباح بدأت في البحث عن أكشاك الورد والأسواق. بالمصادفة وجدت سوقًا مركزيًا للزهور بعد خمس دقائق مشيًا عن يميني، وأقل منها لأصل إلى سوق الخضر والأسماك الطازجة. بدأت بالخضراوات والفواكه: هندباء، جرجير، كرفس، عنب وخوخ، رأس ثوم واحد وبصلتان. وعندما وصلت إلى قطاع الأسماك لم أدر ما أشتري وما أدع، لكنني في النهاية حسمت أمري: قطعتا سالمون وبلح البحر المعبأ في شباك تزن الواحدة منها كيلو جرامًا. ثم مررت بسوق الزهور وحملت ثلاثة أعواد ليليام، ومضيت. بعد خطوات فاجأني المطر، أنا الأعزل بيدين مشغولتين لم أتذمر كما تذمر الآخرون المسلحون بمظلاتهم. كنت بالأحرى سعيدًا بغيوم وأمطار أول سبتمبر، التي تبدو لنا في القاهرة خيالاً علميًا. على الرصيف، تحت مظلة البار أربعة من المسنين يشربون قهوتهم ويلمون أنفسهم بعيدًا عن أسواط الماء. واحدة منهن تطلعت إلى الورد ورفعت ذراعيها تداعبني “شكرًا يا سيد” مبتسمًا مددت لها يدي الأخرى بحقيبة الطعام الكتانية، ضحك الأربعة ولوحوا لي.
عندما دخلت، بدأت بوضع الورد في مزهرية متواضعة ككل أدوات الشقق المفروشة.
كان لابد من إعطاء الليلي فرصته قبل أن تنتشر رائحة السمك المستبدة. وبدأت بغسل الفاكهة، وبعد أن تيقنت من تمكين الرائحة الأضعف بدأت الخطوة الأولى في الرحلة الحوشية. غسلت بلح البحر جيدًا، ثم وضعته على النار مع كوب ماء، وأخذت أستمع إلى الطقطقة داخل الحلة المغلقة كجلاد غليظ القلب. عندما هدأت الأصوات، عرفت أن الضحية أصبحت جاهزة للاعتراف. رفعت الحلة عن النار ووضعتها تحت الماء البارد. كانت كل المحارات قد تفتحت كعرائس متطلعة للحب وقد خلعت أكتاف فساتينها وكشفت عن الثمرة العذبة المثيرة.
تركتها تحت الماء الجاري بينما كنت أفرم ثلاثة فصوص من الثوم مع ورقة كرفس. وضعت الثوم في القليل من زيت الزيتون وبعد أن ذبل قليلاً أضفت بلح البحر النظيف ثم الكرفس وأخذت بالتقليب، وبعد رشة ملح صغيرة ورشة فلفل أسمر، أضفت نصف زجاجة نبيذ أحمر. وغطيت كل هذا، خمس دقائق ورفعته عن النار.
لا تسألي عن السلمون؛ فهذا السمك مثل بنات الهوى يمنح حضنه للعابرين. ويستطيع من لم يدخل مطبخًا في حياته أن يشوي قطعة سلمون في سهولة سلق بيضة.
صارت وليمتي البرية جاهزة. أنفاسها القوية تمتزج بأنفاس الليليوم الناعمة. وصارت الشقة بيتي.
ليتك كنت معي هنا.