ترويض الملك

IMG_3731
في الرواية ـ كما في الواقع ـ تبدو السياسة آلية يمكن تفكيكها وتركيبها، كل الخطايا فيها مباحة، إلا اثنتين.

 

كان أكثرً خبالاً من أن يحكم، وأرق من أن يتخذ قرارات يمكن أن تؤلم إنسانًا، يتوهم أنه ابن فلاحين تمت سرقته ودسه على البلاط، كي يعيش مرعوبًا من مستقبل يصبح فيه ملكًا، إلى أن شاهد مسرحية قدمتها فرقة إيطالية زائرة؛ فاقتنع بأن الممثلين هم أعظم البشر، لهم أكثر من حياة؛ فحلم بأن يصبح ممثلاً. وفي إشراقة إلهام مفاجئة، انتبه إلى أن الحكم ليس إلا نوعًا من التمثيل. وأن كل ما عليه أن يحفظ سطورًا ويلقيها، وأن يتصرف بعظمة كما لو كان ممثلاً!

وبهذا الإلهام تخلى الصبي ابن الخامسة عشرة  عن اضطرابه وخوفه من ممارسة السلطة. وعندما حضر أباه الموت قادوه إلى فراشه، ومنحه الأب بركته. ولقنّه معلمه دوره في مراسم التنصيب: “ستطل على الشعب من الشرفة حزينًا في بداية الأمر، لأن أباك قد مات، ثم تُبدي السعادة لأنك أصبحت ملك الدانمارك. لكنه خرج إلى الشرفة بابتسامة عريضة مما أثار الاستهجان. وعندما سأله المُربي: لماذا لم تُظهر الحزن في البداية كما لقنتك؟ أجابه بكل براءة: لقد نسيت السطر الأول!

هذا الولد غريب الأطوار، هو كريستيان السابع، ملك الدانمارك في نهايات القرن الثامن عشر، وهي الفترة التي شهدت محاولات الخروج من الحكم الملكي المطلق إلى الحكم الدستوري. وقد كانت الأطراف الأوروبية البعيدة مرحبة بفكر التنوير، فكان ملك الدانمارك مع ملك السويد وكاترين العظيمة قيصرة روسيا يتعاطفون مع التنويريين المضطهدين في المراكز الأوروبية التي أنجبتهم، وفرنسا على وجه الخصوص.

ربما الأدق القول بأن كريستيان كان مجرد شخص مضطرب حسن النية، نجح التنويريون في كسب ثقته، وكانوا على صلة به، وعلى رأسهم جان جاك روسو. واستطاع تلاميذهم أن يسيطروا على بلاطه، ويصدرون قرارات جريئة يمهرونها باسمه دون أن يدري.

في الرواية التي ترجمتها سوسن قسيس، وصدرت عن دار “المنى” يعيد الكاتب السويدي بير أولوف إينكويست بناء وقائع فترة من تاريخ أوروبا والدانمارك في روايته “زيارة طبيب صاحب الجلالة” وهي واحدة من أعظم الروايات التاريخية وأمتعها. [i]وليس شرطًا أن يكون ما تقوله الرواية قد وقع، لكن الكاتب ينفذ إلى جوهر السلطة بسخرية جميلة، ويرصد الحياة في قصر، يبدو من الداخل مستشفى مجانين حقيقي، لكنه مقر حكم في الآن نفسه، ويجري به ما يجري في كل القصور.

يقدم الكاتب حاشية البلاط، أصحاب السلطة الحقيقية، الذين يتنافسون ويراقب كل منهم الآخرين، لا يفكر في شيء سوى الاستحواذ على الملك والتخلص من المنافسين. لكنهم يتعاونون معًا على سحق شخصية الحاكم الذي لا يجد في يده إلا مظاهر الأبهة.

في الرواية ـ كما في الواقع ـ تبدو السياسة آلية يمكن تفكيكها وتركيبها، كل الخطايا فيها مباحة، إلا اثنتين. الأولى خطيئة خلط العواطف بالسياسة.  وقد تمكن الطبيب المستنير لجلالة الملك من سن قوانين مزلزلة مثل إلغاء الرق، لكن القوى الرجعية انتصرت عليه وأعدمته بسبب علاقته العاطفية بالملكة. والخطيئة الثانية هي إبداء الكبرياء، إذ تُقطع الأشجار العملاقة القريبة من السلطة وتُطرح أرضًا، بينما تبقى الشجيرات الهزيلة منتصرة!

وووسط كل هذا الصراع يبقى الحاكم مجرد مشخصاتي يؤديدورًا. وسواء تفوه بالغرابات كالقذافي،  أو نطق بالحكمة مثل أوباما في خطاباته البليغة؛ فهو ليس سوى كريستيان جديد؛ أي مجرد ممثل له أكثر من حياة، إحداها تعيسة، بينما للرعية المحتقرة حياة تعيسة واحدة.

 

IMG_3730