حسابات المستقبل بين صاحبة العصمة “رباعية” ودولة الباشا “انتخابات”

صاحبة العصمة السيدة الرباعية
صاحبة العصمة السيدة الرباعية
دولة الباشا انتخابات اللوحتان لـ Fernando Botero
دولة الباشا انتخابات
اللوحتان لـ Fernando Botero

 

قبل أن تبدأ المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية الحالية في مصر، كانت لجنة جائزة نوبل للسلام قد وضعت يدها على الفرق بين تونس ومصر، عندما منحت الجائزة للجنة الحوار الوطني الرباعية التونسية، التي تتكون من أربع منظمات نقابية ومجتمع مدني هي: “الاتحاد العام التونسي للشغل، الاتحاد التونسي للصناعة والحرف والصناعات اليدوية، الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان، ونقابة المحامين التونسيين”.

تونس بدأت حكم أبناء البلد (لا أقول الوطني حتى لا يلتبس الوصف الفني بظلال سياسية) على يدي الحبيب بورقيبة من (1956 إلى 1987) دارس العلوم السياسية الذي قاد تغييرًا جذريًا في المجتمع التونسي ولم يبال حتى عندما تصادم مع المستقر من صحيح الشريعة الإسلامية في قضايا الأحوال الشخصية مثل الميراث والزواج، ومع ذلك استقر هذا التحول وأصبح من المكتسبات التي استوعبها المجتمع التونسي. وعندما ترهلت الدولة في يد الرجل المسن، قاد زين العابدين بن علي انقلابه الأبيض، وبدأ مسيرة الرأسمالية المتوحشة، لكن مدة الانقلاب على التحديث الوطني لم تستمر إلى حد إفساد التعليم أو نشر شبكات الفساد وتحسين آلياته إلى الحد الذي يطفيء كل مصابيح الأمل في المجتمع. وهكذا، عندما تصاعد الصدام بين التيار الإسلامي والتيارات الأخرى بعد ثورة الياسمين، كانت المؤسسات مثل “اتحاد الشغل” لم تزل قادرة على قيادة الحوار ونزع فتيل الأزمة بين أطراف كادت تنسى فضيلة الحوار وعقلانية الرضى بالتعدد والشراكة في إدارة البلاد.

في مصر اختلفت الوسيلة. قاد المرحلة الأولى من الحكم الوطني جمال عبدالناصر (1952-1970) الضابط الذي لا يشك أحد في صدق نواياه الطيبة، لكنه قاد مسيرة من الحداثة التلفيقية غير الجذرية، تسلمها منعه ضابط ثان سار على خطه بممحاة، وبدأ المسيرة الرأسمالية أبكر من تونس بأكثر من عقد من الزمان، وبدأ آليات إفساد المجتمع بما في ذلك اتحاد العمال الذي تركه خرقة بالية، قبل أن تصل الدولة إلى ضابط ثالث هو حسني مبارك ليصبح رئيس  الصدفة، ويمضي على نهج سلفه في إفساد الأرواح بإيقاع عادي نصف مدته، ثم يتسارع الإيقاع في النصف الثاني بدخول نجليه على البيزنس، واصطناع طبقة أوسع مصاحبة لهما من مليارديرات القصر تحت هيمنة الأب وولديه، وسرعان ما تقدم هؤلاء المليارديرات إلى الصف الأول وردوا القصر والدولة ومؤسساتها إلى المستوى الثاني. وأخذوا يعملون في بيئة مثالية من وجهة نظرهم: علاقة المصاهرة مع الدولة عبر النجلين، أحزاب هزيلة وهزلية، نقابات نصفها تحت الحراسة ونصفها مُستأنس، اتحاد عمال لا تعرف قياداته غير صيحة “المنحة ياريس” التي يقاطعون بها الرئيس وهو يحكي حواديته في قاعة الاحتفال بعيد العمال، ومع كل هذا الواقع البائس، كان هناك الإعلام الذي استنفد شرفه خلال مسيرة نصف قرن.

وكان من الطبيعي أن يجهل مليارديرات القصر أو يتجاهلوا أهمية الأحزاب والنقابات، لاستقرار المجتمع وبالتالي استقرار مصالحهم، لكنهم سعوا إلى أن يكون لهم إعلامهم بعيدًا عن إعلام الدولة الذي شاخت شرعيته، فكانت القنوات الفضائية التي وظفت صحفيين في الغالب لا تليفزيونيين ولا إذاعيين وبمرتبات لا يتقاضاها العاملون في سي إن إن الأمريكية أو بي بي سي الإنجليزية ولا الجزيرة القطرية.

وقد وصلت حالة اللاشرعية في مقابل الغضب حدا مهد للربيع المصري. واجتمعت مصالح الجيش مع مصالح الثوار  ضد توريث جمال مبارك.  في 2011 فكانت وقائع الربيع المصري، التي سرعان ما تعرضت للسرطنة  بمغامرة  الهندسة الوراثية التي بدأت في الاعلان الدستوري الطنطاوي ووصلت بالأحوال إلى المرحلة التي ظهرت عليها الانتخابات الحالية.

خلال سنوات الاستذكاء على الجمهور استمر  الإعلام الرسمي متعثرًا في خيباته  الاقتصادية، لا أحد عاد يشعر بوجوده، بينما تولى إعلام رجال الأعمال العبء الأكبر في تأييد النهج الذي سارت عليه الأمور إلى المنعطف الذي وصلته الآن. وتبدو مهزلة الانتخابات القطرة الأخيرة التي أريقت من ماء وجه هذا الإعلام الذي أصبح فاقدًا لمصداقيته بأفدح مما حدث للتليفزيون الرسمي والصحف شبه الرسمية. وكل القادم من حياة هذا الإعلام سيكون مجرد تكلفة اقتصادية على أصحابه لا تؤتي بمردود سياسي أو اقتصادي.

نزل الإعلام الجديد  بكل تقنيات القديم، واستخدم كل آليات التضليل التعبوي من الاستهاض المجاني للوطنية وربطها بعملية التصويت، إلى التهديد بخطورة التيار الديني، إلى استخدام التدين الحكومي الذي يقوم بتزييف طبيعة عملية التصويت من كونها ممارسة للحق إلى جعلها شهادة حق يأثم من يكتمها. هذا اللعب بالدين الذي طالما فندته أقلام القلة الواعية لم يعد يؤثر في جمهور أصبح أكثر وعيًا من نجوم إعلام ضحل تتابعت بالصدفة فضائح التزييف والجهل، وقد وصلت إلى بث ألعاب فيديو على أنها الحرب، وإلى جهل “خبير استراتيجي” بطبيعة الرباعية التونسية، متصورًا أنها سيدة!

لكن فوز الرباعية التونسية والانتخابات المصرية لم تحدثا في لحظة. كانت مداولات لجنة نوبل تبحث في المفاضلة بين أشخاص وهيئات دولية حققت ما تستحق عليه الفوز بالجائزة الرفيعة بينما كانت إجراءات هندسة الواقع السياسي المصري مستمرة كي تحصر المواجهة بين الحزب الوطني والسلفيين واللواءات السابقين.  وأعلنت نوبل قرارها باختيار اللجنة التونسية قبل أيام من إعلان الشعب المصري لموقفه من الواقع السياسي المهندس وراثيًا.

المواطن العادي أصبح يمارس وظيفة الإعلام على وسائل التواصل الاجتماعي بثقافة أعلى من المذيع محرك فيديو الحرب ولديه رؤية استراتيجية أكبر بالطبع من رؤية المحلل التليفزيوني. وقد قال المواطن رأيه في إجراءات التلاعب بالعقول المستمرة منذ مارس 2011 إلى اليوم.

وها هو الوضع في هذه اللحظة: صاحبة العصمة “السيدة رباعية” تمكنت من نزع فتيل الخطر عن مستقبل تونس، بينما دولة الباشا “انتخابات” مصر على استيفاء الشكل دون قلق من تدني الحالة الشرعية. وقد طال الحريق كل شخص وكل شيء، وليس لدى المنتصرين الوقت ليفهموا أهمية بقاء بعض مؤسسات الدولة والمجتمع متماسكة ومحل ثقة الناس إذا ما أطل الخطر. ومن رابع المستحيلات أن يدركوا أن النصر الكامل هو الهزيمة الكاملة.وأن الاستحواذ على كل شيء تمهيد لخسران كل شيء، وأن كتم أصوات الآخرين تأسيس لكتم أصواتهم .