عتمة الذاكرة

حفل زفاف باذخ. تولت زفة عروسيه   أكثر الراقصات شهرة مع وصيفاتها من حاملات الشمعدانات فوق رؤوسهن، نصف دستة من المطربين يتناوبون الغناء، وجيش من الندل.

الجميع يبدون سعداء، باستثناء فهيم الذي افترشت الحسرة وجهه، بسبب وجود كهل أنيق جعله يدرك فداحة العطب في ذاكرته. هو متأكد من معرفة الرجل، لكنه لا يذكر أين رآه من قبل.

ـ هذا الوجه أعرفه جيداً.

ظل يردد كازاً على أسنانه. ومن دون جدوى، أغلق عينيه وأخذ الكهل من يده في رحلة متخيلة. دار  على أماكن ذاكرته، كمن يدور بمشتبه به على شهود لا مرئيين، ينتظر أن يسعفه أحدهم بالجواب: نعم أعرفه!

عندما فاض به ألم الفضول مال على صديقه يسأله.

نظر الصديق مندهشاً وأجاب بتلقائية: تقصد سعيد عُرف الديك؟!

ياااه، ثلاثون عاماً، يرى خلالها شخصاً بانتظام كواحد من عائلته أو أصدقائه، لكنه لم يعرفه عندما غادر مكانه. صاحبه عرف الرجل، لكنه نسبه إلى الحانة التي يخدم بها، لا إلى أبيه.

ثلاثون عاماً يصافحونه، يناديونه باسمه الأول الذي لا يعرفون غيره، يسألونه عن أحواله، ويتبادلون معه القفشات حول تسمياته المبتكرة للأطباق التي كان يستبدلها مرة بعد مرة استجابة  للأحداث السياسية والموضات الثقافية. أكل من يديه الشيء نفسه عندما كان اسمه عام الحسم، والعبور، وعاصفة الصحراء، والعولمة، وصدام الحضارات، ثم سحر داعش.

لوح له فهيم داعياُ فاستجاب وانضم إلى طاولتهم. وسع له مكاناً. وأخذ يتأمل التجاعيد في رقبته، وتهدلات تحت جفنيه. يبدو أكهل مما يظهر في الزي الموحد للندل تحت الأضواء الخفيفة بالحانة. أخذ سعيد يتحدث بجدية وعمق، مدعمًا تعليقاته باستشهادات شعرية لا تنسجم مع صورته لديهم. هل تسلمه إدارة الحانة أداءه البهلواني مع الصديري الأسود والقميص الأبيض والبابيون؟!

ـ لم أعرف أنك تحفظ كل هذا الشعر  يا سعيد.

ـ طول العِشرة يا فهيم باشا. تتركون كل ليلة الكثير من الكلام على الطاولات وتحتها، وقد اعتدنا أن نفرز القمامة قبل أن نتخلص منها، وكثيرًا ما نجد أشياء صالحة للاستخدام.

لشاعر الأسى، فتحي عفيفي
لشاعر الأسى، فتحي عفيفي