عن الواقعي والخيالي في الرسم والفوتوغرافيا

يقول الخبر المنقول عن الديلي ميل البريطانية إن هوس السيلفي أصاب السيدة “جيد” 33 عاما وإبنتها ” سيدنى” 11 عاما، اللتين أدمنتا التقاط الصور مع مشاهير النجوم وأصبح وجههما مألوفا لدى النجوم، وأسفر ولعهما عن 400 سيلفي مع مشاهيرمثل ” إيمي تشايلدز”، “ديكلان دونلي”. أصبح لدى الأم 18 ألف متابع عبر تويتر، فمن من النجوم يعرفها ومن من المتابعين رآها؟!
يقول الخبر المنقول عن الديلي ميل البريطانية إن هوس السيلفي أصاب السيدة “جيد” 33 عاما وإبنتها ” سيدنى” 11 عاما، اللتين أدمنتا التقاط الصور مع مشاهير النجوم وأصبح وجههما مألوفا لدى النجوم، وأسفر ولعهما عن 400 سيلفي مع مشاهيرمثل ” إيمي تشايلدز”، “ديكلان دونلي”. أصبح لدى الأم 18 ألف متابع عبر تويتر، فمن من النجوم يعرفها ومن من المتابعين رآها؟!

في كتابه “الغرفة المضيئة.. تأملات في الفوتوغرافيا” يحدد رولان بارت الفرق بين اللوحة والفوتوغرافيا، من خلال علاقتيهما بالواقع والمجاز، ويرى أننا في الفوتوغرافيا نكون متأكدين من وجود أصل واقعي ولحظة واقعية في الماضي، بينما لا نكون متأكدين من وجود ذلك الأصل في حالة اللوحة. هذا رأي ولا يُمكن أخذه باعتباره حكمًا باتًا، لأسباب شتى.

تعاني الصورة منذ البدايات المبكرة للفوتوغرافيا من  ثقل المجاز، من خلال عمليات التزييف الفني، مثل الرتوش على النيجاتيف في الغرفة المظلمة، وعمليات التلوين اليدوية التي اقترحت ألوانًا للملابس والبشرة قد تكون بعيدة الصلة من الأصل الواقعي. وبعد التحول إلى الصورة الرقمية أصبحت عمليات المونتاج أكثر إتقانًا، بحيث صارت قادرة على وضع أشخاص في أماكن لم يروها مطلقًا، أو الدفع بسيدات في أحضان رجال لم يعرفوهم مطلقًا، أو تركيب أجساد عارية لوجوه يراد الإساءة إليها، أو إعادة ترتيب شخصيات الصورة لإعطاء دور البطولة لشخص أقل جدارة.

فان جوخ، نبأ في بورتريه
فريدا ترسم حزنها
فريدا ترسم حزنها

كل هذه أبواب تجعل نصيب الصورة من المجاز، مثل نصيب اللوحة وربما أكثر. . وإذا حصرنا حديثنا على فن البورتريه في الفوتوغرافيا والرسم، فالأمر أكثر تشوشًا واختلاطًا. هناك أصل واقعي للبورتريه الذي ينجزه الرسام دائمًا، ولا يمكن لمن يدفع المال ويجلس ساكنًا بالساعات أن يقبل صورة لا تمت له،  ربما يقبل التجميل أو يطلبه. وهذه اللمسة تكون لصالح المجاز لكنها لا تُلغي الواقع كلية، وهو ما صنعه المثّال المصري بتماثيل الفرعون، حيث يجب أن يبدو في التمثال بقدر مكانته لا بطول قامته الواقعية مع احتفاظه بملامح الوجه. والأمر في قناع غطاء التابوت لا يرتبط بضرورة فنية، بل بضرورة وجودية حيث يجب أن تتعرف الروح على الجسد الذي يخصها لكي يعود الميت إلى الحياة.

رسم الداخل آخر من الواقعية وعُرف  فني يتأمله الكاتب السويدي بيير أولوف إينكويست في روايته “زيارة طبيب صاحب الجلالة” مقارنًا بين القامة القزمية وشيخوخة البشرة لموظف البلاط المتآمر جولدبيرج، وبين قامته العملاقة في اللوحات التي صورته بفضل سلطته”لم يضطر لإعطائهم التعليمات بذلك، فالفنانون يمتثلون لأوامر المتنفذين دون أن تُلقى عليهم”  لكن الروائي يعترف بأن الرسامين لم يجنحوا إلى المجاز بالمطلق، ويمكن اعتبارهم لم يتجاوزا الواقع لأن القزم كان يتمتع بقوة داخلية هائلة، وقد رسموا هذه القوة.

وربما تكون لمسة الرسام لصالح الحقيقة أكثر منها لصالح المجاز، فأشهر بورتريه لدستويفسكي على الإطلاق تطلب 15 يومًا من المعايشة بين الرسام والكاتب. وفي لحظة محددة طلب الرسام منه أن يجلس ليرسمه، وكانت هذه هي اللحظة التي شعر فيها بالتطابق التام بين داخل وخارج دستويفسكي.

ولا يمكن فصل البورتريهات  الذاتية التي رسمها الفنانون لأنفسهم، عن أصلها الواقعي خصوصًا الفنانين الذين نملك لهم صورًا فوتوغرافية. لكن البورتريه المرسوم محمل بكل ما في الروح من مشاعر. فريدة كالو لم ترسم سوى نفسها، لم ترسم سوى حزنها بالأحرى. فان جوخ فعل الشيء نفسه، بل إن رسمه تضمن وظيفة “الإخبار” الموكولة إلى الصورة الصحفية عندما رسم نفسه بالضمادة على ما تبقى من أذنه التي قطعها في لحظة غضب.

الفوتوغرافيا السيلفي أكثر خيالية من بورتريهات فريدا وفان جوخ؛ فالناس لا يصوبون الكاميرا باتجاه أنفسهم في لحظات الحزن أو الهزيمة؛ بل يفعلون ذلك عادة في اللحظات المميزة، لحظات التنزه والاحتفال والنصر. لا يفكر في الصورة إلا المبتهج، ولا يمكن للحزين أو الخائف أن يُفكر في تخليد لحظة حزنه أو خوفه. الآخرون هم الذين يقتنصون لحظات الخوف والقلق من وجه لا يخصهم ولا يستطيعون توثيقها إلا اختلاسًا؛ لأن انكشاف الكاميرا يُبدل وضعية الهدف، من دون أن يطلب المُصور منه ذلك، وقد يبتسم للكاميرًا وسط أحزانه كي يفرض على الآخر الذي يُصوره الوضعية التي يرضاها لنفسه. وهذا الأمر يستحق التأمل.

ربما نقول ببساطة إننا نصور لحظات فرحنا ونقاوم توثيق الآخرين للحظاتنا الحزينة لأننا نكره الانكسار. لكنها قد لا تكون مسألة حب وكراهية، إذا ما وضعنا في الاعتبار الوظيفة الوجودية للفوتوغرافيا ـ وظيفة المرآة بالأحرى ـ وهي مساعدة الذات على الوعي بنفسها.

ندرك وجودنا من خلال رؤيتنا للآخر. وانعكاس الصورة ـ الزائلة في المرآة والباقية في الفوتوغرافياـ  هو ذلك الآخر الذي نتأمل أنفسنا من خلاله، ولهذا نهندم أنفسنا كي نرى في الفوتوغرافيا أو المرآة هذا الآخر على الصورة التي نتمناها لأنفسنا، ونُكثر من التصوير في لحظات الاحتفال، وإن، عزّت مثل تلك اللحظات نصطنع ابتسامة للتوثيق، وفي الحالتين؛ فالابتسامة لا تمثل حقيقتنا، وهي أقرب إلى المجاز منها إلى الواقع. لحظات السياحة ببهجتها الحقيقية ليست حياتنا على مدار العام، والابتسامة المغتصبة “عشان الصورة تطلع حلوة” لا تمثل حقيقتنا حتى في لحظة  التقاط الصورة.

مسائل من قبيل إدراك الذات والمجازية والواقعية في السيلفي الجماعي أكثر صعوبة من السيلفي الفردي؛ ففي الصورة الجماعية تتباين أحجام الشخصيات عندما تكون الكاميرا في اليد؛ حيث تعطي حامل الكاميرا حجمًا أكبر من أحجام الأخرين إذا التقط الصورة من زاوية. هذا النوع من التزييف غير موجود في الكاميرا الثابتة على حامل المضبوطة على ميقات أو الملتقطة باستخدام عصا السيلفي، لكن أحد شخصيات الصورة سيباغت الآخرين بوضع يسرق به الكاميرا، تعاليا أو تهريجا على غير حقيقته أو حقيقة توازنات القوة في الواقع. و لا يجب أن نغفل العلاقات بين شخصيات الصورة التي يجب أن تنعكس على غير حقيقتها لاعتبارات خاصة.

في اللقاءات الرسمية قد يضع الرجل المهذب ساقًا على ساق رغمًا عنه لأن هذا الوضع يشير إلى المكانة السياسية لبلده في مفاوضات مع بلد آخر،  الأزواج المتكارهون وزملاء العمل المتباغضون يبتسمون في السيلفي لكي تنطق بسلام غير حقيقي.

والأكثر خيالية من الفوتوغرافيا التي يتم التقاطها لأسخاص يعرف بعضهم بعضًا المعروفين هي تلك التي تجمع غرباء. تمتليء الحسابات الشخصية على صفحات التواصل الاجتماعي بصور مواطنين مع نجوم التقوا بهم مصادفة في الشارع أو حفل زفاف. وتلك الصورة التي تجسد لحظة ستعيش طويلاً مع المواطن، لا توجد منها نسخة لدى النجم الذي منح ابتسامته ومضى ناسيًا المواطن واللحظة التي جمعته به. بالنسبة للنجم  لا يوجد أصل واقعي للصورة ولحظة التقاطها خيالية تمامًا، بعكس ما يفترض رولان بارت.