فايز السمين السعيد وضحيته النحيفة

ريتشل راي، شي القلوب
ريتشل راي، شواية القلوب

لا أخفي استلابي أمام نجمات الطهي الغربيات، حبًا في الجمال المحض وعشقًا لقلة الأدب. ويتمدد إعجابي ليشمل  الطهاة الرجال الغربيين عشقًا للأدب؛ فليس من المعقول أن يستغني المرء عن استعارة جميلة لطباخ إنجليزي من قبيل “غيمة من القشدة” لوصف طبقة الكريمة على سطح كعكة، مقابل أفعل التفضيل، الذي يمثل مقبرة لمصداقية معظم الطهاة والطاهيات العرب. عشرات الأصناف المتباينة تتلقى الإطراء ذاته في الحلقة الواحدة، كل واحد منها هو الأعظم والأحب إلى قلب الطاهي.

ألا يشبه هذا تصريح “التطابق التام في وجهات النظر” الذي يخرج به حاكمان عربيان لدولتين على وشك الاشتباك في حرب؟

أندرو.. ودارين بتعّقد.
أندرو.. ودارين بتعّقد.

نحن لا نقول الحق ولا نتحلى بالاعتدال عند استخدم اللغة. ولا يمكن لمن يأمل في التلميح الناعم لأدوات البلاغة الرقيقة من استعارة وتشبيه وكناية أن يسوغ مبالغة دارين المفرطة، عندما تصيح: “بتعقد” أو “واو بتاخد العقل”  إعجابًا بنتيجة شديدة العادية من أندرو، كأن تخرج دجاجته ذهبية اللون من الفرن وليس من كمه، علمًا بأن شوايات الشارع المبتذلة تُخرج كل الدجاجات ذهبية.

دعد..لا يمكننا اختبار الطعم على الشاشة، لكن الألوان زاكية دائمًا
دعد..لا يمكننا اختبار الطعم على الشاشة، لكن الألوان زاكية دائمًا

لهذه الأسباب أتابع، بمزيد من

النحيفة والبدين، قصة ليست لتشيخوف، بل لفايز الريماوي.
النحيفة والبدين، قصة ليست لتشيخوف، بل لفايز الريماوي.

الأسى، تمدد مساحات الطاهيات العربيات على حساب مساحات الغربيات، نجمات أحلام مراهقتي خلال السنوات الثلاث الماضية اللائي تعرفت بهن في قناة الطبخ العربية “فتافيت” وليس من المروءة السكوت على تآكل مساحة إيماءات نايجيلا بعينيها اللتين تأكلان، وليس من العدل انطفاء فرن رايتشل راي، أو ابتسامة أسنان جيادا أو اختفاء غمازتي صوفي دال، بينما تتزايد برامج اللت والعجن كلامًا وطبخًا.

وليس من العدل أن يختفي أندرو مع الطبيعة الخلابة التي يقدم منها برامجه لصالح النجم الحلبي محمد أورفلي، الذي يقضي وقته في تحضير أشياء معقدة تستهلك الوقت وتفسر تأخر حلب عن الالتحاق بالثورة عندما كانت سلمية. من برنامج “مطبخنا العربي” عرفت لماذا  لم تثر “حلب” مدينة اللذة المطبخية إلا بعد عام ونصف، ولم تتدخل بالصراع إلا باحتراق اللحم مباشرة. المقارنة الظالمة ذاتها تصدق إذا عقدناها بين المشعوذ الممتع إيميرل، وبين الشيف المصري، الذي لا أشم من مطبخه سوى شياط أحباله الصوتية بينما يلهث بأغنية كانت جميلة، مغيرًا كلمات الحب بكلمات الطبخ، فيصبح الطبخ جميل، جميل الطبخ.

لا يحرق الشيف أغنية ويتركها لمصيرها لكنه ـ مثل مبارز يتملكه الغضب فيواصل طعن خصمه بعد الموت ـ يغمغم بنهايات لا يحفظها لأغنية عادل مأمون ولا يتركها إلا بعد أن يُفتي وينسبها ظلمًا إلى شادية في فيلم لم تمثل فيه!

بالطبع، لا تخلو الإطلالة العربية من بعض المتعة، من وصف طعم بـ “الزاكي” تقولها الشيف الأنيقة دعد، ولا من وصفة تقدمها سلمى سليمان بدفء مصري. ولكن الذي يشفيني تمامًا من آثار الاستلاب الغربي، هو الشاب السمين الضحوك فايز الريماوي، في البرنامج الذي يقدمه مع خبيرة التغذية النحيفة.

“مشاهدة طيبة” هكذا يتمنى المذيعون للمشاهدين دائمًا، لكن مشاهدة فايز الريماوي وخبيرة التغذية التي يناديها “فاطمة” في برنامج “سكر مظبوط” لا يمكن وصفها بمثل تلك السهولة، هي نوع من المتعة المؤلمة قليلاً. فيها الخفة والثقل، فيها الفخر والتواضع، والفخر في هذه القصة للنحافة بعكس المعادلة في قصة “السمين والنحيف” للعبقري تشيخوف، إذ كانت السمنة دليلاً على الفساد السياسي لدى صديق الدراسة القديم، بينما كانت النحافة دليلاً على نزاهة الآخر.

تبدو خبيرة التغذية منتبهة لسمنة فايز، مثلما تنتبه الزوجة إلى سمنة زوجها بعد موت الحب. ويبدو فايز مرحًا لا مباليًا باستعادة أنثاه.

هما ليسا زوجين لحسن حظهما معًا، وفايز يتحدث دائمًا عن خطيبته السعيدة به على هيئته. ولكنه بين الحين والحين يحاول أن يشرح لخبيرة التغذية أنه جرب كل شيء، حتى الإبر الصينية التي لم ينله منها إلا ألم الوخز. يريد أن يقول لها، إن هذا عمل الهرمونات التي لا يفلح معها طب الطبيب أو سحر الساحر، وهي لا ترعوي.

نعرف أن تليفزيون الحقيقة، مجرد وهم، فالتمثيل أمر واقع بمجرد وجود الكاميرا، والسيدة النحيفة لا تريد أن تسم بدن فايز حقيقة، فايز الشخص، لكنها تستهدف فايز المعنى، وتطارد البدانة في جسد فايز بأصولية صحية لا تشبهها إلا أصولية “بوكو حرام” الدينية.

ـ شايف يا فايز، بقصة تنزيل الوزن كنت بقولك ناخد الحبوب الكاملة، نحاول نبتعد عن الملح.

ـ هي، هي هي!

يضحك فايز ويحاول إعادتها إلى جوهر المسألة: الطبخة!

ـ طيب نحاول نحط الفلفل.

تُلح في شرح الإجراءات الضرورية من أجل الحصول على جسد نحيف، يستأنف فايز الابتسام،  ويشيح برأسه:

ـ قولي يارب.

ثم يحكي فاصلاً كوميديًا عن الحميات التي اتبعها وفشلت قبل أو بعد أن تبدأ.

ولا تلتقط رائدة النحافة للنكتة ـ الأصوليون عادة لا يضحكون ـ  تسترسل في وعظها، ولم يبق إلا أن تطارده بالعصا مثلما تفعل جماعة الأمر بالمعروف. والأجمل من سندويتشات فايز مقاومته الباسلة لدور الضحية المفروض عليه في المناظرة الممتعة كثيرًا المؤلمة قليلاً.

لو كانت خبيرة التغذية مرشحة رئاسة أمريكية لاكتسحها فايز في المناظرة بلا أدنى شك، ولكنه حقق معجزته من دون أن يضطر إلى حمل مسئولية تدمير العالم الكبيرة التي تضطلع بها الولايات المتحدة!

للمرة الأولى في التاريخ تنتصر الذكورة على الأنوثة، وللمرة الأولى تتفوق البدانة على النحافة منذ أن استلبنا الغرب وجعلنا نعتمد معاييره، وبأصولية مفرطة،  نعتبر النحافة معيارًا وحيدًا للخفة والجمال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إيمريل، رائد الشعوذة المطبخية.