قهوة مُرة بعد حلم حزين

قهوة
بدأ الغليان وانتفخ وجه القهوة بتوتر حتى صار بحجم انتفاخ جفنيك عندما تنغلقان وتتركاني

 

استيقظت اليوم بعد حلم  غريب. ولم أترك نفسي لطعم الوحشة؛ فالأمر ليس جديدًا عليّ. أعرف الطبيعة الكاذبة للأحلام، الأقل سوءًا منها ينكمش ويضمر في الذاكرة من تلقاء نفسه، والأسوأ أواجهه ببعض الألعاب البسيطة، عندما لا تكونين موجودة لتهشيه بقبلة.

حلم الليلة من النوع الثقيل الذي لا يمكن صرفه بمجرد التجاهل. رأيتني على بوابة عبور إلى بيروت إذ تواعدنا أن نلتقي في تلك المدينة الخطرة، البوابة حاجز غير مرئي على الطريق وليس حاجز الجوازات في المطار. كنت أسير في الطريق الواسع دون اكتراث وسمعت صديقة من الخلف تقول لي لابد أن تمر بصافيناز؛ فهي التي ستسمح بالدخول.

الصديقة تعرفينها أطلعتك على اسمها في رسالتي السريعة على الواتس آب، لكن من صافيناز هذه؟ لا أعرف. ستقولين لماذا لا يظهر الرجال في أحلامك مطلقًا؟ هذا كل ما يهمك! لكن الحلم كان ثقيلاً وغريبًا؛ فرغم وضوح وجه الصديقة وإشارتها إلى المفتشة باسم محدد، لم أر  من هذه المرأة سوى يديها. مجرد أصابع تُقلّب صفحات جواز سفري وصوت يسألني عن الهدف من الزيارة والمكان الذي أقيم فيه وكمية ما أحمل من النقد. كنت أرد عليها بحدة، ولم يكن لدي فضول للتطلع بحثًا عن الوجه الذي يخرج منه الصوت، كان الأمر طبيعيًا بالنسبة لي،  انتهى الحلم بعدم دخولي وعدم عودتي من حيث أتيت.

صحوت عالقًا في العدوانية المتبادلة بيني وبين الصوت. جرجرت قدميّ إلى الحمام، مارست طقوسي الصباحية ببطء، ولم يفلح الماء البارد في تخليص بدني من ثقل الحلم. ولم أفكر بطعام أو ماء. ولم أحب الاحتفاظ بحياد طعم فمي بعد تنظيف الأسنان. وكان لابد من قهوة أكثر مرارة من الحلم.

أشعلت السبرتاية، ووضعت الكنكة الصغيرة فوقها، ثم وضعت البن ليسخن قبل الماء. هكذا أحب أن أفعل. أوقظ ذرات البن من نومها بهذه اللسعات المباغتة، ثم أطفيء هياجها بالماء، وآخذ في مراقبتها إذ تتصاعد سخونتها ثانية حتى تنضج على مهل يوحي بأن الحياة أبد. طعم القهوة ليس في القهوة وحدها، بل في  زمن إعدادها الهني البطيء مثل زمن مقدمات الحب صباح يوم عطلة.

بدأ الوشيش وكأنه بذرة الرغبة إذ تولد في العيون. ومع الوقت تسارع الوشيش كتسارع ضربات القلب لحظة لمس شحمة الأذن. ثم بدأ الغليان وانتفخ وجه القهوة بتوتر حتى صار بحجم انتفاخ جفنيك عندما تنغلقان وتتركاني بالخارج. في تلك اللحظة المتأزمة رفعت القهوة عن النار قبل أن يتمزق غشاؤها.

التوقف عند هذا الحد لذيذ؛ حيث للبكارة ثمنها وللطعم الفج متعته. المضي في الغليان وترك الحرارة تندفع من العمق لتدمر القشرة الرقيقة وتبتلعها في أحشاء الكنكة خصلة شامية، من شمال فلسطين والأردن حتى أقصى الشمال السوري وهي المدرسة الأكثر انتشارًا في المحيط العربي، عندما نتحدث عن القهوة التقليدية. تعرفين أنني لا أُدخل في حساباتي القهوة العربية “الهيل” وإن كنت أحبها كدواء، ولا أحب القهوة التي تعرضت للتشويه سواء بتقنيات الغش الفرنسي بالمكسرات، أوالغش الأمريكي بالحليب. كذلك لا تدخل في حساباتي قهوة الماكينة “الاسبريسو”  ما يهمني هو البن الصريح الناضج في الكنكة التقليدية على طريقتنا العربية التي تقبلنا وصفها بـ “التركية” بتسليم يعكس تسليمنا بكل ما يأتينا من الغرب، ومن بينه تصور ذلك الغرب لعلاقتنا الملتبسة بتركيا منذ “الامبراطورية العثمانية” التي تشكلت على يديها رؤية الأوروبيين التي جعلت من كلمات: العربي، المسلم، والكافر، مرادفًا لكلمة تركي.

ليكن اسمها ما يكون، ما أحب أن أقوله لك الآن أنني أخرجت هديتك الألمانية، فنجال القُبلة القبلة لجوستاف كليمت. كنت أحتفظ به لأستعمله في حضورك، لكنني لم أجد بدًا من الاستعانة به اليوم كي أستعيدك. حتى في الحلم لم أقابلك، كنت أعرف فقط أنك على الجانب الآخر. الآن، أطالع قبلة كليمت وأتذكر انحناءتي المتمهلة باتجاهك، نظرة شفتيك المنفرجتين بترحيب، الغرق في رائحتك جسمك التي لا أعرف كيف أصفها، والتي لم تستسلم لسيطرة عطر مهما كانت سطوته. كلما تطاول غيابك أُغمض عيني لاستحضارك، وأول  ما يصلني منك هو دائمًا رائحتك؛ الرائحة التي سأنتظرها هذا الصباح وكل صباح، وسأترك بابي مفتوحًا، حتى أجدك ذات مرة تعبثين بشعري، وعندما تعثر أصابعي على وجهك الذي كانت تتوقعه، أتناوم لكي تُكملي إيقاظي بالطريقة التي تختارينها بشكل مختلف كل مرة.