كعبها العالي كان يؤلمنا

Lempicka2
تفصيل من لوحة للفنانة Lempicka

“..وأما الذي يجب اجتنابه؛ فهو ذلك الذي يقودك إليه الدليل أو الذي يقف على بابه الخدم”

هذا التحذير من المطاعم المدعية كتبه بيرم التونسي في أحد مقالاته عن مرسيليا عام 1933، هي مسألة بديهية   يعرفها الجميع. هي وأنا نعرفها كذلك؛ إذ لا يحتاج المطعم الرائج إلى جلاّب يستجدي الزبائن. وعلى العكس من ذلك، فالزحام برهان ساطع على الجودة ؛  لأن أمة المطاعم لا تجتمع على ضلال.

لكن المعرفة لم تنفعنا في شيء. ووقعنا في فخ  ذلك المطعم الفلورنسي الذي يفتح على شارع ضيق ويطل من الناحية الأخرى على النهر. كان فخنا الثاني في الرحلة نفسها، لكنه كان الأسوأ. لم تجذبنا الإطلالة على الماء في تلك الليلة، كي نقول إننا تغاضينا عن مظهر الاحتيال الذي بدا واضحًا في وقفة الخادم بالباب، لكننا كنا متعبين من كعبها العالي. اكتشفنا الإطلالة الرائعة حقًا بعد أن دخلنا، حيث يمتد المطعم كشريط على النهر، مباشرة كأنه مركب عائم.

كان لابد أن ندخل مكانًا ما،  لأننا لم نجد طاولة في المطعم الحانة  الذي لم تكن حبيبتي متحمسة له، وتنازلت مجاراة لي في  إعجابي بجودة “البستكة” كتلة اللحم الوحشية وطعمها الرائع الذي أحببته في الليلة السابقة، على المرء أن يمارس توحشًا لا يؤذي أحدًا بين الحين والحين!

إخفاقي في تحقيق خياري كان تدبيرًا من الأقدار لصالحها؛ لأن أناقتها في الليلة كانت أعلى من أن تتناسب مع  الحانة، لكن تلك الأناقة  لم يكن سبب عدم ترحيبهم بنا. كانت هناك ثلاث مجموعات تنتظر طاولة خالية، وكان ترتيبنا الرابع. هكذا أخبرنا النادل بصرامة أصابتني بالإحباط، لأنه نسي كل ممازحاتنا معه بالأمس.

كنا قصدناه في وقت متأخر من ليلة أمس، عندما كان آخر رواده يستعدون للمغادرة، سمحوا لنا بالدخول بترحيب فاتر، لكننا أثناء العشاء السريع أقمنا جسورًا للود مع العاملين الذين بدّل نصفهم زي المطعم استعدادًا للمغادرة. وتصورت أنني صرت صديق هذا النادل بالذات.

كنت مصممًا على كسب وده كما أفعل مع النُدل المصريين؛ فنحن شعب يمكن أن يجيد أية مهنة مهما كانت مشقتها، لكنه لا يجيد صناعة الخدمة. المصري يرى نفسه مخدومًا، وإن اضطر لوظيفة نادل فهو يسعى إلى صداقة الرواد بأكثر مما يسعون، لأنه يتمكن من خلال هذه الصداقة تجاوز محنة عمله نادلاً، والشعور بأنه يخدم أصدقاء في بيته.

وقد تصورت أنني صرت صديق الفلورنسي المتين حليق الرأس إلى الحد الذي يجعله يعتني بنا عندما قصدنا  قبوه لليلة الثانية على التوالي، لكنه قال: “ستنتظران نصف ساعة” قالها بحسم ومضى. الرد أسعدها ـ بركة يا جامع! ـ ولم تشعر بحجم الخذلان الذي أصابني، فالمكان مناسب ويؤدي الغرض: نظيف، دافيء، ومذاق طعامه لا يُقاوم، وكنت أمني نفسي بكتلة اللحم الغبية لليلة الثانية.

أقول الآن، وقد مضى كل هذا الوقت، إنها لم تكن متحمسة في الليلة السابقة، لكن للحق، أعترف أنها لم تحاول إفساد  بهجتي. أخفت عدم حماسها للمطعم تحت غطاء رقيق من المجاراة لمدائحي له، بينما كنا نقطع الكوبري فوق النهر وأحتويها في معطفي لأحميها من البرد الذي توقعناه قبل خروجنا، ومع ذلك رفضت بإصرار إخفاء جمال فستانها تحت بالطو.

الآن، أنتبه إلى أن الخلاف بيننا حول المأكل هو نفسه الخلاف حول الملبس؟! أطلب وظيفة الشيء، وتطلب الجمال. وهذا خلاف صغير سيبقى بيننا إلى أن نحله بتنازلات بسيطة مني، لكنها قد تكون مؤلمة بالنسبة لها. بوسعي أن أتناول شيئًا آخر بعد الخروج من مطعم لم يعجبني، لكنها لا تستطيع تعويض الجمال المفقتد في مطعم لم يعجبها.

كنت أخذلها دائمًا عندما لا أنتبه إلى جمال قميص أو فستان ترتديه للمرة الأولى؛ القميص الأجمل بالنسبة لي هو القميص المخلوع، والفستان الأجمل هو الذي يحقق سهولة الحركة والدفء. وسأبقى مخلصًا للمطاعم التي لم تنفصل عن أمنا الطبيعة.

في إيطاليا قد أصبر على بيتزا نابولي أيامًا متتالية، على أن يأتي بعدها يوم للبستكة متوسطة النضج التي ينز دمها مثل عصارة أورمة خشب قطعت للتو من جذع شجرة حي. في المقابل المطعم الصالح بالنسبة لها هو الأنيق الإطلالة، النظيف، الذي لا يختنق بروائح قوية، ويقدم أطباقًا رمزية محدودة الرائحة، لا تخدش مجالها العطري المميز، الذي يمتدحه الندل عندما يدخلون تحت مظلته كي يشعلوا الشمعة أو يصبوا الشراب.

قبل ثلاث ليال من تلك الليلة قصدنا مطعمًا من النوع الذي يروقها بتزكية من فتاة الاستقبال في الفندق، وكان شديد الادعاء، وكان مزاجنا حسنًا فتقبلنا الأسلوب المسرحي في تقديم اللاشيء بفكاهة تواصلت أثناء سيرنا تحت المطر في طريق العودة. لم تتذكر من طعامهم سوى خبز الباجيت، كان لذيذًا جدًا وينطوي على الغش الكلاسيكي”الإكثار من الملح والزبد” وهذه هي الوصفة السحرية لكل مطعم ناجح. وقد اختار ذلك المطعم جمع أضراره في خبزه اللذيذ، ولولا ذلك الخبز  لخرجنا من السهرة إلى مطعم آخر.

لم أهتد إلى مكونات طبقها لا بالنظر ولا بالتذوق ولا بالشم، بينما كانت الجرامات القليلة من السمك في طبقي غارقة في صلصة تقطع كل علاقة السمك السابقة بالبحر.

الحق أقول ، حتى هذه اللحظة أنا غير متأكد من كونه سمكًا، لكنني أعتمد هنا على قائمة الطعام التي قدمته على أنه سمك، ولا أعتقد أن سخريتهم تصل بهم إلى حد تقديم قشر البطيخ مقليًا؛ فهذه فضيلة لا تتحلى بها إلا مطاعم الأسماك الشعبية في مصر، ليس بدافع من السخرية، بل كنوع من اللقاء في المنتصف بين ميزانية الزبون وأسعار السمك الحقيقي.

بالطبع، ليس كل ما يطشطش في مقلاة السمّاك الشعبي قشر بطيخ، وإلا لكان غشًا فظًا، هناك قطع من السمك يحصل عليها الزبون، ولن يضيره أن يدعم وجبة الفسفور بقليل من الأحماض الأمينية التي تتميز بها الطبقة البيضاء من البطيخ، فهي تساعد على توسيع الأوعية الدموية وتقليل ضغط الدم، علاوة على أن نسبة الألياف التي يحتويها تعادل أربعة أضعاف ألياف البرتقال.

مالي  أشرد كثيرًا!

ماذا كنت أقول؟ نعم نعم، في تلك الليلة، فرّط فينا نادل القبو بسهولة، ومضينا نتشاور، هل نقضي نصف الساعة في مطالعة واجهات المحال التجارية، أم ندخل إلى مطعم آخر. بكرمها المعتاد وافقت على الاقتراح الأول، لكن البرد كان قويًا، وكنا نتألم من كعب حذائها العالي. لم نتحمل وبعد خطوات استدرنا وأسلمنا أنفسنا للخادم الواقف بالباب يدعونا لأكثر المطاعم ادعاء.