هل يمكن بلع الاستبداد من دون سلطاته وبابا غنوجه؟

تجمد الزمن المصري عند لحظة 30 يونيو 2013 . لم يتغير شيء في المشهد سوى إخراج القوى العاقلة التي ترفض الاستبداد من المشهد. وباستثناء ذلك فالاستقطاب الحاد هو نفسه بين أنصار الاستبداد الملتحي وأنصار الاستبداد الحليق.

الإخوان يصفون الحكم بالديكتاتورية العسكرية والحكم يصفهم بالجماعة الإرهابية، وكلا الطرفين يستخدمان الوسيلتين الوحيدتين الأقرب إلى يد المستبد وهما العقاب البدني والإعلام الموجه الموهوب في الهبل.

وفي غياب التدفق الحر للمعلومات وشل فعالية القوى العاقلة وضع الطرفان البلاد تحت طبقة كثيفة من الضباب الأسود، على سبيل المثال لا أحد يعرف الحجم الفعلي لمشروع مثل قناة السويس الجديدة، لأن المتاح عنها يقول إنها في عظمة السد العالي، وفي تفاهة مشروع توشكي!

هكذا يكون ميدان رمسيس في زمن الأب المستبد الحامي.
هكذا كان ميدان رمسيس في زمن الأب المستبد الحامي. الفضاء مفهوم، جميل ومسيطر عليه.
رمسيس ضاق بتمثال الفرعون والنافورة والحديقة في دولة متروكة للفوضى.
رمسيس ضاق بتمثال الفرعون والنافورة والحديقة في دولة متروكة للفوضى. هل يمكن ضبط التفكير على موجة واحدة في ظل هذا الانفلات العنيف للأجساد؟

المستقر في الحكم والطامع في استعادته يسعيان إلى سلطة أبوية يمارسها على البلاد، بلا شريك في الملك.

كفة الاستبداد الحليق تبدو الأرجح، بينما يواصل إعلام الإخوان وصف النظام بالانقلابي والعسكري. وكنوع من المكايدة يعترف إعلام النظام ضمنًا بالطابع العسكري للحكم، بل ويطالب بقمع أكبر، ويزعم بأن العسكرة وحدها قادرة على تحديات المرحلة وضمان عدم تحول مصر إلى سورية أخرى.

وقد فات الطرفين إدراك الفرق بين العسكري ولابس الميري. ذلك الفرق هو الذي يحدد إمكانية إقامة حكم استبدادي واستمراره؛ فهناك اشتراطات يجب أن تتوفر في الحكم المستبد لكي يكون أبًا للمجتمع وتستقر سلطته في هذا المجتمع. وإذا تلفتنا حولنا سنجد نوعين من الاستبداد في القرن العشرين، أولهما استبداد القوة العسكرية المنظمة ابتداء من الثورة البلشفية في روسيا ثم صعود النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا مرورًا باستبداد الضباط في البلاد حديثة التحرر كما في مصر الناصرية. والاستبداد الثاني هو الاستبداد القبلي في الدول الغنية الريعية في المنطقة العربية التي أعدت أعلامها وأناشيدها الوطنية على عجل بعد خروج الاستعمار المباشر.

في الاستبداد الأول هناك منظومة كاملة تعمل لصالح أبوة الزعيم العسكري، هناك “الفولكس فاجن ” سيارة الشعب الرخيصة وشديدة التوازن والوافرة الأمان لدرجة أن أحدًا لم يسعد برؤيتها مقلوبة أبدًا، هناك التعليم والبيت والتوظيف والعمارة الوظيفية الحادة والمتقشفة والباليه والأوبرا والطرق والساحات الواسعة لاحتفالات النصر. وهناك قبضة الدولة القوية وشبه العادلة التي تحفظ الحدود بين الناس وتجعلهم يصطفون في طابور واحد، دون مساس بالكرامة الإنسانية إلا لمن يرفض هذه الأبوة الحامية.

وفي النوع الثاني من الاستبداد هناك الأساس القبلي الذي انتقل إلى المرتبة الثانية بعد الطفرة المادية المتأخرة. توازنات القبيلة فرضت نعومة أدوات الحكم؛ حيث لا توجد ظاهرة إهانة المواطن في أقسام الشرطة، بل استفاد من النعومة ذاتها الوافدون المقيمون في تلك البلاد، ثم جاء غطاء الوفرة المادية الذي يجعل الفرد يتطلع إلى ما تحمل يداه راضيًا أكثر مما يتطلع إلى ما بيد غيره.

وبالإجمال شروط الأبوة متوفرة في التعليم والرعاية الصحية والتوظيف. وليس هناك مساس بالكرامة الإنسانية ظاهر، سواء تجلى في العوز الشديد أو في تجاوز ضباط الشرطة. وغالبًا لا تمارس الدولة العنف إلا في حالات الخروج من الطابور و رفض هذه الأبوة الرغيدة.

ومن أسف أن مصر لا تتمتع بأي من الشروط الضرورية لإقامة أحد نوعي الاستبداد المذكورين. الدولة لم تعد تبني المسكن للفقير، وعندما تبني مقارها فهي لا تبني المباني المهيبة المتقشفة بل تبني علبًا وضيعة أنفقت على ترخيم جدران أسوارها  ببذخ سفيه. وبالطبع لم تعد الدولة تقدم تعليمًا يُعول عليه ولا تقدم الوظائف، ولا الرعاية الطبية.، ولا تضبط حتى المرور. ومن المستحيل النجاح في  وضع الأدمغة في طابور، بينما الأجساد متروكة لفوضاها  وتصارعها اليومي.

فأية أبوة يمكن الاعتراف بها في ظل إهدار كرامة الأبناء عند البحث عن تعليم أو علاج أو مسكن أو وظيفة، بل حتى عند السير في الشارع الفوضوي الخطر؟

المعلوم أن الأب لا يكتسب حقوقه على الأبناء لأنه واضع النطفة؛ فأبناء الحرام لا يعرفون آباءهم. ويدينون بالفضل لمن يُربّي. ولذلك فإن إصرار إعلام الاستبداد الحليق على أن السيسي هو واضع نطفة 30 يونيو في رحم مصر لا يكفي لمنحه حق الطاعة. أو بالأحرى لإلباس الزي العسكري لصيغة من استبداد حليقي اللحى، الغلبة فيها لمن يُسمون بـ “رجال الأعمال”.

ودون الدخول في الحكم الأخلاقي على أنظمة الحكم من حيث الخسة أو النبل؛ فإن  الأمور في مصر لن تستقيم إلا بأحد الخيارين: استبداد بسلطاته وبابا غنوجه (من أمان مادي وانضباط الدولة القوية) أو الديمقراطية. والخيار الثاني هو الأسهل في هذه المرحلة، وهو الوحيد الذي يمكنه الحفاظ على حياة الخاطفين والمخطوفين.