هنا، حيث تعرت الملكة

حمام 1
ولن تكون تجربة التخفف من الهموم سيئة أبدا في المكان الذي من المفترض أن الملكة المشتهاة قد تعرت.. وعرفت فيه لحظة نادرة من الهدوء، ربما كانت الوحيدة في حياتها الصاخبة

مدق رملي متفرع من الطريق الرئيسي الممهد لا يلبث أن يكشف عن صخور ناعمة رصفتها الطبيعة بأبهة تليق بممر ملكي.

ينتهي المدق بصخرة مرتفعة تحتاج إلي بعض الخيال لكي يري المرء تكوينها الأنثوي الذي يوحي بامرأة ترتدي فستانا من عصر الباروك غارقة إلي نصفها في الماء، لكن أحدا لا يلتفت إلي الصخرة المدببة التي تصلح لأن تكون الملكة ذاتها وقد مسختها الآلهة، ولكن العين المهيأة منذ بداية الرحلة لرؤية الصخرة الأخري تتجاوز الصخرة الأولي التي تشبه في فستانها الحجري حزن النساء في رسوم دييجا.

تنصرف العين سريعا وتسعي القدم إلي حيث حّمام الملكة.

حمام
صوت اللموج القادم من عمق ألفي سنة غارقة في المتوسط يغري لاستكانة إلي شعور بالسلام المطلق

الصخرة الكبيرة التي تتخذ من الخارج هيئة تل، مجوفة من الداخل علي شكل قبة باتساع غرفة فسيحة، تربطها بالشاطئ فتحة مرتفعة قليل. البابان الرئيسيان داخل البحر يندفع من أحدهما الماء ومن الثاني يتسرب. وبهذا تكتسب الصخرة شكل الغرفة المصانة عن عيون المتلصصين.
ومن غير المعروف إذا ما كانت كليوباترا قد زارت مرسي مطروح أم لا، لكن الذين صاغوا الأسطورة تصوروا ذلك باستخدامهم القياس المنطقي علي رحلة جدها الإسكندر لاكتساب شرعية آمون عبر تعميده من كهنة معبد الإله المصري بواحة سيوة القريبة، لكن من يبددون المُلك لا يمتلكون فطنة المؤسسين.

ولا يبدو أن الملكة المعتزة بمفاتنها كانت تشعر بأنها في حاجة إلي دعم الآلهة، كما أن علاقتها بالحشمة لم تكن بالقوة التي تجعلنا ننسب إليها حياء لا تمتلكه. والمنطقي أن ملكة استعراضية مثل كليوباترا لم تكن لتستحم إلا علي شاطئ مزدحم بحيث تخلب ألباب أكبر عدد ممكن من المصطافين، لكننا يمكن أن نتقبل الأسطورة فقط من باب حب الملكة للمغامرة، فالماء الذي يلطم صخور المدخل بعنف يرتد بذات القوة التي تجعل من الاقتراب من هذه البوابة مغامرة محفوفة بخطر الموت المضاعف: تهشيم الجمجمة والعظام قبل الغرق!

كليوباترا التي لا تزال إلي اليوم موضوعا حيا في كتابات المؤرخين وأفلام السينما والروايات الأكثر مبيعا كانت في السابعة عشرة عندما توفي أبوها بطليموس الحادي عشر في العام الحادي والخمسين قبل الميلاد، فورثت عرشا يتهاوي مع أخيها (بطليموس أيضا) وكان صبيا في العاشرة وقد أحاط به أوصياء ومستشارون دخلت كليوباترا في صراع معهم. وبدأت بالتحالف العسكري مع حكام سورية، لكن ذلك لم يكن كافيا فاتجهت إلي التحالف الجنسي مع حكام روما، التي لم يكن بوسعها صد جيوشها (استنادا إلي هذا التعاون المبكر من حق مصر أن تطلب اليوم عضوية الاتحاد الأوروبي).
في البداية قابل قيصر حظه السيئ الذي طلع عليه في شكل ابتسامة ساحرة لامرأة متوجة بالفتنة خرجت من بين طيات سجادة حمُلت إليه في مقره بالإسكندرية ذات ليلة.
وكانت تلك الابتسامة الماكرة التي أدارت لب القائد المنتصر بداية لسلسلة من الهزائم لم يخرج منها إلا بمغادرته الإسكندرية عائدا إلي بلاده التي استأنف منها أمجاده الحربية، لكن كليوباترا تبعته إلي روما، وأدت لعنة طموحها إلي اغتياله.

ولم تتوقف كليوباترا أمام الحادث، بل سرعان ما أصدرت أوامرها إلي قلبها بالتوجه صوب أشجع ورثته في السلطة: أنطونيو الذي ذهب معها إلي الآخرة دون أن يعرفا الراحة في الحب أو السلطة.
يقولون إن سكان روما أدركوا أي مصير مظلم تنتظره إمبراطوريتهم عندما شموا عطر الملكة التي دخلت مدينتهم محمولة في محفتها الذهبية، لكن شيئا من ذلك العطر لا يمكن تبين أثره اليوم داخل حمّامها في مطروح الذي يحمل رائحة الطحالب البحرية الرطبة.

الظل المبلل بالماء وصوت الريح القادم من عمق ألفي سنة غارقة في المتوسط وقت ظهيرة يقل فيها الزوار يغري بالاستكانة إلي شعور بالسلام المطلق. ولن تكون تجربة التخفف من الهموم سيئة أبدا في المكان الذي من المفترض أن الملكة المشتهاة قد تعرت وعرفت فيه لحظة نادرة من الهدوء قد تكون الوحيدة في حياتها الصاخبة.

المرأة التي يعرف زائر حمّامها معني الفناء، لاتزال حية إلي اليوم في كتابات المؤرخين والروائيين الغربيين علي وجه الخصوص. وقد تفرغ العديد منهم للتشنيع علي ملكتنا مؤكدين أنها كانت أبعد ما تكون عن الجمال، موزعين تأثيرها بين عطرها ولباقتها والتعاويذ السحرية. وقد ذهب البعض منهم إلي أنها كانت قصيرة وضئيلة الجسم، وهذا الادعاء يمكن أن تؤيده واقعة التسلل داخل سجادة، ولكن حرقة التوق إلي معني الأنوثة فيها يمكن أن تعيدها من جديد، خلاسية (لابد أن هذا هو اللون القادر علي بهدلة حكام روما البيضاء) ممتلئة قليلا داخل دريل جينز بينما تتناثر خصلات الشعر الأسود علي الجبين المتوهج بفعل أسبوع من الاصطياف.

تلقي بنظرة إلي الداخل ثم ترتد حيية لأن الحمام مشغول بغريب، وتتقدم الوصيفة التي قد تكون أما محجبة ويتقدم الحارس الذي قد يكون أبا فتتبعهما الملكة مطمئنة قليلا تتأمل باستغراب جدران المغارة البحرية، يبدو واضحا أنها تتعرف علي المكان للمرة الأولي.

ويكاد الزائر يقول لها: تقدمي، إنه حمامك، ليس أنت من ينبغي أن يخرج، بل الآخرون؛ الغرباء الذين جاءوا بقلوب خالية من الإيمان بأسطورتك!