قبل سبعمائة عام لم يكن للإمام ابن حزم الأندلسي أن يعلم ما يمكن أن تتيحه تكنولوجيا الاتصالات عندما قدّم النظر على الصوت وسائر الحواس الأخرى لا بسبب فضيلة خاصة، بل بسبب تفوق النظر بقدرته على الوصول لمسافة أبعد من الحواس الأخرى “التي لا تدرك إلا بالتجاور” وقد أضاف الإمام عامل السرعة لإقناع قارئه بفكرة تفضيله الرؤية على السمع: “ودليل على ما ذكرناه أنك ترى المصوت قبل سماع الصوت، وإن تعمدت إدراكهما معا”.
هذا يعني أن الإمام أدرك زيادة سرعة الضوء على سرعة الصوت، لكن التكنولوجيا لم تتبع حماس الإمام، وهي تعيد ترتيب أهمية الحواس على هواها؛ فقد بدأت الاحتفاء بانتقال الصوت عبر المسافات، من خلال التليفون ثم الراديو، وبعد نحو نصف قرن نجح سفر الصورة من خلال التليفزيون.
وحتى بعد أن اتجهت الأمور إلى المساواة بين الصوت والصورة في إمكانات النقل، تظل للصوت ميزته التي تتمثل في انتقاله بكامل كثافته الحسية، لأنه يظل مطابقا لجوهره، بينما الصورة مجرد تمثيل رمزي لصاحبها ليس له الطبيعة المادية ذاتها ولا الحجم نفسه. علاوة على انفراد الصوت بقدرته على حمل الحواس الأخرى، فبينما تستطيع الصورة المنقولة من البعيد أن تقدم حالة محدودة التعبير عن مشاعر صاحبها، يستطيع الصوت الواصف أن يحمل على جناحه الإغواءات الأخرى من الرائحة إلى الملمس والطعم والرؤية.
وفي سعيه المحموم إلى تسليع كل شيء أقدم الغرب على تأسيس شركات الخدمات الجنسية الصوتية، وقد صارت في العقد الأخير مؤسسات مهيبة للقوادة، مكونة من شركات الهاتف ومحطات التليفزيون الرسمية والخاصة التي تعتمد الإعلان عن هذه الشركات كواحد من أبرز مصادر دخلها.
ورغم ما تنطوي عليه العبارات التي تقدمها فتيات الجنس بمختلف اللغات من هزلية؛ فقد ثبتت هذه التجارة أقدامها وأصبحت خدمة لا غنى عنها لأبناء المجتمعات المغلقة والعنينين على مستوى العالم. ليس هناك رجل من الغباء بما يجعله يُصدق امرأة مجهولة تعلن للجميع بصوت مؤثر: “سأكون لك وحدك..أنا خاصة جدًا وحنون..أبحث عن دفئك.. أنت وحدك القادر على إرضاء أنوثتي.. اتصل بي، لا تتأخر”.
لا يعول الرجال على ما يقال، ولكنهم مع ذلك يقدرون تنهدات التأوه العابرة للثقافات التي تمنحهم الجنس مع الاحتفاظ بأسرار أجسادهم الحميمة. وقد أنفق رجل من دولة نفطية نصف مليون ريال في اتصالات من هذا النوع استجابة لنداء امرأة عبر محطة تليفزيون أوروبية شرقية تقول فيه بعربية فاحشة: “إذا كان لك(…)كبير فاتصل بي حالا” جرب الرجل مرة ثم واصل اتصالاته سعيدا بخداعه للمرأة التي لم تكتشف ضآلة ما لديه!
ورغم أن النساء أكثر من الرجال تأثرًا بالصوت فليس هناك من تفسير لتأخر تقديم هذه الخدمة للمرأة، إلا بسبب عدم استقلالها المادي والاجتماعي في كثير من البلدان، فحتى الثرية منهن لا تستطيع أن تصون فاتورة هاتفها من تلصص الرجال. وعلى كل حال فقد أفاد تقاعس العولمة النساء في صون أموالهن، بينما بوسعهن الحصول على الخدمة مجانا عبر اتصالات المعاكسات العشوائية بمبادرات من الجنسين؛ كان لها أبلغ الضرر على المثليين في المجتمعات المتحفظة، حيث يتناقص اعتماد النوع على نفسه في ظل لذة الصوت الممكنة والرحيمة.
الصوت مفتاح الفرج!
والمرأة تستقبل بأذنها كافة الأصوات باستثناء الصوت المشتهى؛ فهو يجد طريقه مباشرة إلى الأحشاء. وقد كان الصوت المستغني عن العين أهم ما يميز الممثل عمر الشريف على أقرانه في السينما المصرية، وإذا كان أداؤه في الحياة السبب الأساسي وراء فشله في تحقيق النجاح الذي يستحقه في هوليود فإن هذا الفشل يرجع في جانب منه إلى تماثل النساء الغربيات مع رجالهن في الجهل بأسرار لذة الصوت.
غالبًا، تبدو النساء أكثر انسجامًا في اختيار الصوت الرجالي المفضل، فباستثناء قلة تجنح إلى ذات نوعها أو تمتلك ذكريات سيئة مع الرجولة القاسية، تُفضل المرأة صوت الرجل القوي الحاسم في رجولته، بينما يتميز كثير من الرجال بازدواج الرغبة بحكم انحراف أصيل في الطبع، يدفعهم إلى تفضيل الصوت الرقيق للزوجة والصوت الذكوري للعشيقة!
وأحيانا ما يخون ذكاءُ التجارة شركاتَ الجنس الهاتفي عندما تقدم فتيات يتمتعن برقة السيدات المهذبات. ومع هذا فإن مجرد تقديم هذه الخدمة يعد استدراكًا لخطأ ارتكبه الغرب قرونًا طويلة في حق هذه الحاسة الجليلة. ويكفي تأمل العمل الملحمي البحث عن الزمن المفقود الذي أنفق فيه مارسيل بروست عمره لإدراك هذه الحقيقة، فهو يصف بكل إتقان الضوء والظلال في جيرمانت، وإغواء أوديث وأناقة سوان وسخافة سيدات الطبقة الراقية، ولكن كل هذا يقع في عالم يكاد يكون خاليا من الأصوات. وفي أحسن تقدير تبدو الأحداث كما لوكانت تجري بصوت آلي ليس له شيء من فضيلة الإغواء التي للصوت البشري. الكلام عند بروست نص يعلن عن الكرم، الحب، التكلف، أو الاشتهاء بلاغته في روعة الإنشاء مع استغناء تام عن النبر. أما فلوبير فقد جعل من مدام بوفاري الضحية الأبرز لخرس الرغبة.
ويبدو أن إهمال الصوت نقيصة أوروبية متأصلة فملكتنا المصرية كليوباترا ـ التي وصفتها بعض الأدبيات الغربية بالملكة الفاحشة ـ بالغ المؤرخون الغربيون في وصف عطرها المدوخ، كما سودوا مئات الصفحات في خلافهم حول لون بشرتها، وشغلوا أنفسهم طويلا بأزيائها التي تقمصت فيها أدوار كل إلهات الحب في العالم القديم: من إيزيس إلى عشتار إلى أفروديت، دون أن يذكروا شيئا عن صوتها. ولابد أن تجريدها من قوة الصوت ـ الذي ينبغي أن يكون أحد مقومات سحرها كابنة مخلصة لخلاسيتها ـ يعود إلى غفلة المؤرخ الأوروبي غير المعتاد على العناية بهذه الحاسة.
في المقابل تبدو قوة الصوت سمة مشتركة لآداب المناطق الحارة في أفريقيا والهند وأمريكا اللاتينية وسود أمريكا الشمالية المتأثرين بأفريقيتهم وهنديتهم، دون أن يجهلوا تفوقهم في هذه الناحية على الأوروبيين؛ فـ جابريل جارثيا ماركيز في مائة عام من العزلة التي تمتلئ شأن العديد من رواياته بسعار الرغبة يعطي العاشق الإيطالي بترو كرسبي ـ دون غيره ـ المظهر المسالم لامرأة، إذ كان يحضر إلى البيت بلا صوت تقريبًا مسبوقًا بعطر الخزامى وحاملاً لعبة هدية إلى خطيبته، منتظرًا عامًا كاملا ً قبل أن يلمس يد امرأة لم يكتب لها أن تصير زوجة لمثله في ماكوندو القرية التي تحبل نساؤها في الطرقات.
ورغم رأي ماركيز في المسكين بترو كرسبي، فإن سكان الجنوب الأوروبي يبدون وقد أفلتوا من جهل القارة الباردة بأسرار الصوت. في رواية “المسيح يصلب من جديد” يضع الروائي اليوناني الورع نيقوس كازانتزاكس لينيو (إحدى نساء الرواية المحاصرة بالعفة المسيحية) في مجال صوت ناي الراعي الصغير فتسير مسلوبة الوعي صوب الصوت كأنها استمعت إليه يدعوها باسمها، لتجد الراعي منهمكا في تحريض كبش يلاحق نعجة بينما يصدر الكبش أنينًا خافتًا كأنه يتوسل إلى النعجة المتمنعة. وعلى الفور أحست لينيو بألم في ثدييها وأخذت تلهث وقد تدلى لسانها مثل نعجة، ولم يكن أمامها سوى الاستسلام للصبي نيكوليو، مثلما استسلمت النعجة للكبش.
الإيطالي ألبرتو بيفيلاكوا يحكي هو الأخر قصة في كتابه العذب ” إيروس” عن بييترو القبيح الذي ولد من رحم أجمل امرأة في المدينة، ونما محتقرًا وحاقدًا وهو يرى جمال أمه في عيون الآخرين ممتزجًا بالحيرة من بشاعته حتى في البؤبؤ الأبيض للعين الكفيفة. وكان يقف بالساعات عاريًا أمام المرآة لاكتشاف أي ملمح للجمال في جسده، فلا يجد ولا حتى شامة تجمله، فيصلي ويدعو “رباه، اجعلني أبدوأفضل بقليل” قبل أن يكتشف في نفسه موهبة عزف رائعة كانت كفيلة باستسلام أكثر الأجساد النسائية تحصينًا.
وتبدو قصتا كزانتزاكس وبيفلاكوا قريبتي الشبه بأسطورة نشأة فن القوادة التي يوردها الولي أحمد بن سلمان في رجوع الشيخ إلى صباه، بفارق واحد: أنه جعل من الغلام العازف شيطانا، حيث يقول إنه “كان فيما بين نوح وإدريس بطنان من آدم أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل. وكان رجال الجبل صِباحا والنساء دِماما بينما كان الأمر معكوسا في السهل، فتشكل إبليس في صورة غلام أجر نفسه خادما لرجل من أهل السهل، ثم اتخذ مزمارًا فجاء منه بصوت لم يسمع الناس مثله فاجتمعوا إليه واختلط الرجال بالنساء متلذذين بما سمعوا فتناكحوا وكان هذا أول الفاحشة فيهم”.
بعبور المتوسط جنوبا يتزايد احترام فضيلة الصوت، إذ نرى جمال الغيطاني يفتتح روايته الزيني بركات بمشهد الاستغاثة الذي يصدر عن أحد البيوت، وستكون تلك الاستغاثة أولى أمارات العدل المخادع لدى الزيني بركات بن موسى الذي أمر بالتفريق بين رجل أراد الانتقام من سنوات عزوبته الطويلة والجارية الصغيرة التي تجمع سكان الحارة على استغاثاتها، وساءهم ـ إشفاقا أوغيرة ـ أن يحدث هذا تحت سمعهم لفتاة ليست مؤهلة لإطفاء الحرمان المزمن. وتكاد روايته وقائع حارة الزعفراني تكون رواية حول أصوات الرغبة، فالحارة المعزولة لا يقطع ليلها سوى أصوات بعضها يأتي كأفضل مظاهر الاحتفال بفعل الحب، وبعضها للشجار الذي ينشأ برفض المرأة للرجل غير الكفء؛ حيث لا يمكن لنجاح التسافد أوالإخفاق فيه أن يتم في الحارة الضيقة دون صرخة من المرأة تحميها من مصير الكمد الذي وقعت فيه مدام بوفاري عندما اختزنت أصوات رغباتها في قفص من حديد.
محمد البساطي جعل أصوات الليل عنوانا لرواية كاملة، حيث الشيوخ المهملين من أولياء أمورهم (أبنائهم ) يرتدون إلى نزق الصبا في ألعابهم البسيطة وفي تتبعهم الليلي للحاج علي العائد بعد سهرة حشيش في المقهى تؤهله لتفجير غنج الزوجة الشابة فتحية المنتظرة التي تسحره بصرختها: أنا في عرضك يا حاج علي.كانت تبادره بالصرخة قبل أن يهم بها، وكأنها لا تعنيه وحده وإنما تطلق إشارة البدء لكافة الكائنات في القرية، حيث تنخرط الفئران والقطط والأرانب في التسافد، كما ينتبه الجار إلى المكان الخطأ الذي نام فيه ولداه في حضن الزوجة فينقلهما ليبدأ عزفه في سيمفونية اللذة بقيادة المايسترو علي المفاجأ برؤوس العجائز في شباكه يتلذذون بالرذاذ المتطاير من أكثر التأوهات إلهاما.
وإذا كانت فتحية لدى البساطي منحت البهجة لكائنات قرية صغيرة على النيل فإن جميلة وفرت هذه الخدمة في رواية الميلودي شغموم “خميل المضاجع ” لكل من يصله إرسال الإذاعة الجهوية (الإقليمية) وقد أعطى الروائي بطلته وظيفة مذيعة لبرنامج ناجح يناقش مشاكل الشباب ومعظمها حول البطالة وكيفية الحصول على عمل، كان جميع الرجال يهاتفونها: سيدة جميلة؟ ويكاد اختلاج أصواتهم يتجاوز إلى: السيدة الجميلة؟ وكانت هي ترد بتواطؤ:نعم جميلة! ومع ذلك كانت تعرف كيف تستخدم طبقة من الصوت صارمة لمنع تجاوز المتحدث. وذات ليلة اشتبك صوت جميلة الموحي مع صوت رجل متقاعد يعاني مشكلة مختلفة:الشعور بالوحدة، وهي مشكلة تخرج عن نطاق اهتمامات البرنامج، ورغم ذلك تطلب الأمر تدخل الشرطة لفض اشتباك الصوتين!
وفي رواية الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال كان مصطفى سعيد يوقع نساء لندن البيض في مصيدته المنسوجة من صخب الأصوات والروائح واللون الأسود الزاعق، بينما كانت بنت مجذوب تصف للرجال المعطوبين بحكم السن مثلها ذكريات شبابها عندما كانت تصرخ الصرخة فتجفل منها البهائم المربوطة إلى مراحها في الساقية، وهو استدعاء طريف لصرخة عائشة بنت طلحة التي تفرقت لها إبل عثمان ولم تجتمع حتى اليوم!
وقد كانت عائشة سيدة الرهز بين بنات جنسها، وينقل أبوالفرج الأصبهاني في ” الأغاني ” عن المدائني عن امرأة أنها قالت: ” كنت عند عائشة بنت طلحة، فقيل قد جاء عمر بن عبيد الله (يعني زوجها ) قالت فتنحيت ودخل، فكنت أسمع كلامهما فلاعبها مرة ثم وقع عليها فشخرت ونخرت وأتت بالعجائب من الرهز، وأنا أسمع، فلما خرج قلت لها: أنت في نفسك وشرفك ومروءتك وموضعك تفعلين هذا؟ قالت: إنا نستهب لهذه الفحول بقدر ما نقدر عليه وبكل ما يحركها، فما الذي تنكرينه في ذلك؟ قلت: أحب أن يكون ذلك ليلا، قالت: إنه يكون ليلا وأعظم منه”. وعن هذه المرأة الفنانة أيضا تناقلت كتب المؤانسة العربية قولها:” إن الخيل لا تشرب إلا بالصفير “.
وفي وقت تتزايد فيه نصائح الواعظين ـ الذين يريدون إضفاء مظهر العصرية على نصائحهم الدينية ـ للمرأة بالتهتك مع زوجها في الفراش، يتزايد عدد التطهريين الذين أدانوا رواية الطيب صالح ويقفون جاهزين لإدانة كل عمل من هذا النوع بتعصب يتزايد بدعوى الحفاظ على أخلاق مجتمعات هم أكثر الناس جهلا بها.
هؤلاء لا يعرفون أن الطيب صالح عندما قدم بنت مجدوب لم يكن ينوي الابتذال التجاري، بل يصف واقعا عاديا في ريف السودان كما هو في ريف مصر؛ إذ أن ألم الأعمال الشاقة في الريف لم يكن يهزمه سوى تذاكر ألم اللذة. وكانت برك الطين في شتل الأرز وحقول الشوك في جني القطن بمثابة مواقع تدريب للعذارى على فنون الحب والخبرة بالرجال من خلال حكايات العجائز اللاتي فقدن القدرة على الاحتشام ولا يمللن الحديث عن أكثر ذكرياتهن حميمية. وكان هذا الحكي يتم في تواطؤ بين العجوز القادرة على الكلام وجارتها الشابة القادرة على العمل التي تميل على العجوز وتساعدها في عملها مقابل هذه التسلية الشهوانية العذبة.
وكان من الشائع والطبيعي أن يتغامز الجيران في الصباح تفكهًا وإغباطًا لبعضهم البعض على أصوات الليل.
في عالم الحيوان والطيور يبدو الجمل استثناء نادرا، حيث يقمع رغباته بخجل عذري ولا يتناكح إلا في الليالي المظلمة بهسيس يصدر عن الأجسام الضخمة أكثر مما يصدر من الحلوق. وإذا كان لنا أن نتغاضى عن الصراخ الدعائي للضفادع وصراصير الحقل ( لأن لذتهما لا يمكن أن تكون بحجم هذا الادعاء أبدًا ) فإننا سنجد القطط أكثر الكائنات فضائحية؛ فهي تمتلك أكثر من ستين درجة صوتية تبدأ من خرخرة الاطمئنان أوالمرض وتنتهي بالعويل المرتفع الذي تخصصه فقط لنداء الشبق، حيث تموء الهرة الطالبة للوصال مواء موصولاً يقطع القلب ويدفع من يستمع إليها إلى الإيمان بعدالة مطلبها دون أن يعرف لماذا تنادي داود داود وكان عليها أن تنادي سليمان فهو الذي يستطيع أن يأمر الجن بتدبير الوليف المناسب في لمحة عين!
الحمار ينهق وتكتفي الأتان بالتشدق مثل امرأة تمضغ لبانة بدلال، بينما تصمت فحول البقر والجاموس وتشهر الإناث رغباتها نعيرًا. تتمتع الحمير بقدر أكبر من الحرية في إرضاء أجسادها دون وصاية كبيرة من البشر، بخلاف البقر والجاموس التي تفقد كل ذكورها متعة الجنس: الغالبية بالخصاء للاحتفاظ بالصحة لأعمال الحقل، أما من يفلت من ذاك المصير ليصبح “طلوقة ” فإنه يفقد لذة الجنس بتحوله إلى وظيفة تقوده ـ شأن كل الوظائف ـ إلى السأم!
لا تتعرض إناث الجاموس والبقر لقسوة الخصاء التي يتعرض لها الذكور، ولكن رغباتها تنتهي بالخذلان القاسي في كثير من الأحوال؛ فالفلاح الذي تصوره الروايات الرومانسية ملاكًا لديه نصيب من الجشع الإنساني يجعله غير قادر على رؤية متعة أبقاره وجاموسه إلا من منظور مصالحه الضيقة، فيخطط لتلقيح المواشي في أوائل الربيع حتى لا يتأثر لبنها في وقت البرسيم، ولا تتوغل في الحمل إلا في الصيف وقت شح المرعى الأخضر، ثم لتضع حملها في الشتاء التالي مع البرسيم الجديد الذي يضن به على بهيمة حامل عديمة النفع. وإذا طلبت بهيمة الوقاع في غير هذه الأوقات يحتال عليها حتى يفقدها رغبتها، غالبا بإنزالها إلى الترعة في الصباح الباكر لإطفاء جسدها بالحمّام البارد الذي يكون نافعا في بعض الأحيان، وأحيانا أخرى تكون الرغبة أقوى فتواصل البهيمة النعير الملتاع أياما متواصلة حتى تقتل رغبتها على مسمع من الجميع إلا إذا رق لحالها خلسة شاب يعرف معنى دفن الرغبات حية! وإذا حرنت البهيمة ولم تعاود الإفصاح عن رغبتها في الوقت الأنسب اقتصاديًا يسعى الفلاح لاستثارتها وتأجيج رغبتها باللجوء إلى بعض الروائح من بينها البصل المقلي.
الحمام سيد مملكة الحب، يتولى ذكوره الهديل للإيقاع بالإناث ومعظم الطيور تقريبا تفعل ذكورها الشيء نفسه، رغم أن الوضع الطبيعي كان يقتضي قيام الإناث بمساعي التدليل لأنهن أقل جمالا من الذكور، وهذا هو موطن النبل في ذكر الحمام مقارنة بالرجل الذي ـ رغم تدنيه الجمالي ـ يعامل المرأة بقسوة، ولا نعرف كيف ستكون أحوالها لو كان الرجل أجمل مما هو عليه!
ـــــــــــــــــــــــــــ
*فصل “أصوات الرغبة” من الأيك ـ طبعة أولى دار الهلال 2000، وطبعة ثانية دار التنوير 2014.