حاولت كثيرًا كتابة قصة حول الصوت الأكثر توهجًا في ذاكرتي حتى اليوم، ولكنني كنت أتراجع دائما خوفًا من الانحدار إلى مستوى النكتة الفجة، فالاتهامات بالمبالغة واقفة دائما بالباب لخيال الكاتب الذي لا يملك إلا أن يبتسم في مواجهتها، لأنه وحده يعرف أن الحقيقة كانت أكبر وأنه اضطر لتخفيفها لتصير أدبا.
كان العم عبد الفتاح يمتلك بضعة قراريط يكتفي بزرعها بالخضراوات حسنة السمعة مع الحب: الفجل والجرجير والفلفل والبصل في الصيف، والحلبة والخُبيزة والخس والجزر الأحمر في الشتاء. وكان من يمتلك مثل هذه المساحة الضئيلة من الأرض بحاجة لأن يعير مجهوده للملاك الأكثر ثراء، لكن عبد الفتاح لم يكن يفعل ذلك اكتفاء ببستانه الشهواني الصغير الذي لا يحتاج إلى الاستيقاظ المبكر ولا إلى عنف وغلظة الفأس.
كان في أوقات العصر يمضي مع زوجته نجية الفارعة الممتلئة في بضاضة حتحورية، وعلى غير عادة الفلاحين في تقدم الرجل زوجته، يتبختران في دعة مثل عاشقين جنبا إلى جنب، منجله الصغير في يده والمشنة في يدها. ويعودان قبل المغرب خصوصًا في رمضان ليجلسا معًا أمام الجامع بمشنة الفجل والجرجير والبصل المُقسَّم حِزمًا بخوص النخيل.
وفي قرية نحيلة الشوارع يستمع الجميع للخلافات خلف أبواب الآخرين، لم يكن أحد يستمع لصوت الزوجين لأنهما في الواقع كانا يعوضان بالليل غيابهما النهاري. لم يكن التأوه العادي من العادات الليلية لدى نجية، بل كانت تلطم وجهها وتبكي بكاء مريرًا. ولهذا السبب اعتاد عبدالفتاح ألا يقربها إلا في جوف الليل، آملاً ألا يكون بمقدور جيرانه المنهكين الاستيقاظ حتى يبدأ معزوفته الجنائزية التي تستمر حتى الفجر. لكن هذا كان محض وهم، إذ كان الشيخ حسنين ـ وهورجل ضرير ـ يهمس لأصحابه بعد أن يجذب نفسا يشعل الجوزة المغمسة بالحشيش: من سره أن ينظر إلى امرأة من أهل الجنة فلينظر إلى نجية، لأنني ـ كما تعلمون ـ لا أستطيع يا غجر!
فيسألونه: وكيف عرفت يا شيخ الندامة ؟!
يقول: بإذًايّ! أراهن أنها مثلهن ترتد عذراء كل مرة.
كان صخب نجية الليلي الحجة الجاهزة والباسمة لكل أجير يضبطه صاحب الملك نائمًا في وقت العمل، رغم أن أحدًا منهم لم يُقدم أبدًا على طلب الهدوء من عبد الفتاح الذي يأكل من خضرواته المهيجة أكثر مما يبيع.كان الجميع شهودًا صامتين للعرض الليلي، وإذا حدث وتغيب أحدهم على مسافة كبيرة من القرية لسقاية أرضه ليلا في أوقات شح الماء، كان بمقدوره أن يعاين الأثر صباحًا في التخطيطات الجديدة بوجه عبد الفتاح.
وحده الحاج محمد ارتكب حماقة الرغبة في فعل الخير في أيامه الأخيرة؛ فلقي ما لا يليق بتاريخه. الرجل المسن شيخ منسر معتزل، في دفتر أمجاده الكثير من الأعمال الكبيرة منها سرقة مواشي الخاصة الملكية في أنشاص وهي العملية التي فقد فيها إحدى ساقيه واستعاض عنها بعكاز من الخشب ينتهي بمخدع منجد بالقطن المكسو بحرير أخضر يستريح عليه الإبط.كان الحاج محمد يقضي أيامه والساعات الأطول من لياليه على حصيرة نظيفة ومتكأ فوق المصطبة أمام داره مع صينية عليها فنجال وكنكة صغيرة وعلبة بن وموقد كحولي أنيق صالح لإنضاج القهوة مع فص الأفيون. هذه التحويجة التي كانت قادرة في السابق على شحذ تفكيره أصبحت مهمتها في أيامه الأخيرة تشويشه لصالح روحه التي لم تكن على استعداد لتحمل التناقض بين عقل حاد وجسد معطوب.
ويبدو أن المسكين لم يتسن له ـ بحكم أعماله الليلية في السابق ـ معرفة ما يعرفه الجميع عن بكاء نجية، وبدافع من رغبة في الختام بفعل الخير كان الحاج محمد يستمع إلى نواحها فيتأبط عكازه ويحجل حتى شباك عبد الفتاح وينقر له وهويصيح: عيب يا ولد.. عيب يا عبد الفتاح، هذا ليس وقتا للضرب.. الصباح رباح يا ولد!
مرة، مرتان، ومائة وعبد الفتاح يرد خجلا: حاضر يا عم الحاج.
ورغم أن الظروف هيأت كل صباح للحاج محمد من ينصحه بالتغاضي عن صراخ نجية، إلا أنه كان دائما يبلغ الليل ناسيًا ويكرر مسعاه الطيب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الأيك، فصل أصوات الرغبة.