الرجل الذي أتلفته كتابة الرسائل الغرامية

محمود سعيد
محمود سعيد

قليلا ما نصارح أنفسنا بشرور مهنة الكتابة التي أوقعت في صفوف البشرية عددًا من الضحايا لا يقل عن ضحايا الحروب.

آلاف من البشر في كل زمان يبددون مواردهم البسيطة ونور عيونهم المحدود في ليالي سهر قليلة المحصول، بينما يحتفظون لنهاراتهم بالمظهر البائس لجريح لا يعرف إلى من يوجه رصاصة انتقامه: إلى القارئ الذي لا يميز أم الناشر الذي يدلس أم الكاتب الآخر الذي لم ينتشر إلا بفضل كمية من الخبث الثعلبي تضمن له أن يكون الوحيد الذي يجني ثمار جهل القراء وتدليس الناشرين؟

أحد هؤلاء الضحايا كان ـ مثلهم جميعا ـ له وجه حكيم موكل بهداية قوم يتكلمون لغة أخرى. أكمل السبعين دون أن يستسلم يومًا للغبطة؛ رغم أن له زوجة تصغره بعشر سنوات على الأقل، تعكس تجعيداتها الخفيفة هدوءًا مستقرًا وماضيًا مؤكدًا من الجمال يبدو في الملامح الدقيقة لوجه أسمر يلمع بصفرة ذهبية بقدر ما يبدو في الجسد الملفوف رغم السن.

 وفرت له المرأة بنين وبنات تزوجوا وأنجبوا  عددًا من الأحفاد يدعو للفخر. وفوق كل هذا حافظت له حتى اليوم الأخير على إظهار إيمانها العميق بقدراته، فكانت توفر له الجو الملائم لكاتب مجيد، ولم تكن تعترض على ما يحتجزه من دخله المتواضع لشراء الورق والحبر (كان يسوي بنفسه من البوص أقلام البسط التي أخلص لها حتى النهاية) ومع ذلك كان شديد القنوط، لأنه كان يراكم مخطوطاته الرواية تلو الأخرى في رزم من الورق الأبيض يلفها بورق الكرتون الملون الذي يجلبه الجزارون خصيصا للف اللحم، ثم يُقمِّطها بحبل مطاطي.

عندما كنت صغيرًا كانت كتابته مدهشة لي، وسرعان ما تبينت زيفها، ومع ذلك حافظت على زيارته حتى أخريات أيامه، وكنت أتعجب من قدرته على مواصلة الكتابة والوقوف بعيدًا عنها بذات الدأب.

في كل زيارة كان يفك أقمطة رواياته واحدة بعد الأخرى. يقرأ عليّ صفحات طويلة من الرواية التي كتبها لكي يحض الأجيال الجديدة على بر الوالدين، ثم يعيدها داخل قماطها ليقرأ من الأخرى التي توضح فضائل الصدق والأمانة، ثم تلك التي تحذرهم من خطر المخدرات. وفي غمرة إعجابه بأحدث لفائفه الروائية، كان من الصعب إقناعه  أن الرواية الجيدة لا تحتاج إلى موضوع خطير، وأن وقوع ذبابة في شبكة عنكبوت ربما يقدم رواية أفضل من ورطة أمريكا في فخ فيتنام.

 

بعد أن مات وضع أبناؤه اللفائف أمانة في يدي، وكانت بينها رزمة ضخمة من أوراق لم يزل حبرها طازجًا.ربما لم يتسن له أن يُكفِّنها مثل أخواتها وربما تركها عامدًا خارج الأقمطة التي لم  يمت إلا بعد أن وصل إلى يقين بأن يدًا لن تمتد من بعده لفك أحدها. ولم تكن تلك الأوراق سوى رواية أنقلها هنا بالإيجاز الواجب والأمانة الممكنة لكاتب حريص على ود القراء:

” استوقفتني جارتنا الشابة وطلبت مني أن أزورها في المساء لأكتب خطابًا إلى زوجها الغائب. هرولت مرتبكا دون أن أرد.لا أدري بالفعل ما الذي جعلني أتصرف على نحو مختلف هذه المرة، حيث كنت أواصل كتابة ذات الخطابات إلى ذات الرجل منذ أكثر من ثلاث سنوات، كما أنني آلف بيت الجارة كبيتنا.

قبل أن أدخل المدرسة كانت تأخذني لأبيت معها خاصة في ليالي الشتاء الطويلة، كانت تحمص لي الفول السوداني فوق ركية النار وتحتفظ لي بقطع من الحلوى. وفي الصباح أجد نفسي متكورًا في دفء حضنها وأنا أحاول تذكر الحواديت التي حكتها لي بالأمس على السرير؛ المكان الوحيد الذي تجلس وتستلقي عليه، إذ تتكون دارها الصغيرة من غرفة واحدة وباحة صغيرة تستغل جانبا منها للطبخ أو لوضع طشت الحموم وغسيل الملابس، ولا يتبقى منها سوى ممر يفضي إلى الغرفة التي يحتلها السرير المعدني النظيف دائما، المجللة أعمدته بناموسية من الدانتيلا البيضاء تمنحه خصوصية غرفة أخرى داخل الغرفة.

كنت قد اجتزت عتبة بيتنا التي تحتلها أمي عندما وصلت الجارة التي تبعتني على مهلها وروت لها باسمة ما فعلتُ.

 قالت أمي: يعتقد أنه صار رجلا ويخجل! سأرسله في المساء.

 

كنت بالفعل أشعر منذ أسابيع قليلة بتغييرات غامضة في جسمي، وبدأت أحس بالضيق عندما لاحظت أنني لا أستطيع أن أرفع عيني عن الجارة وخاصة عندما تعصف الريح بجلبابها وتبرز وركيها الملفوفتين. لكن هذا الإحساس لم يكن وحده السبب لدفعي إلى الهرولة، فقد رأيت في وجهها تلك المرة شراسة تتحدى رجولتي المتسللة في صمت.

عندما فتحت لي الباب، كانت ترتدي جلبابًا سادلاً وقد جمعت شعرها بإيشارب من خلف رأسها وعقدته من الأمام بينما انفلت منه الشعر هائشا على ظهرها، قادتني إلى السرير المعدني، وقد ثنت الوسادة التي سأكتب عليها، وعلقت اللمبة في مسمار على الحائط فوق الرأس.

قالت: نشرب الشاي أولا.

خرجَتْ إلى الباحة.جلبت كنكة على صينية ومعها كوبين وبرطمانا للسكر وآخر أصغر منه للشاي. انحنت على الوابور تشعله. لم يكن وجهها ولا نهداها الصلبان اللذان لمحتهما من مكاني على السرير بحاجة إلى انعكاس وهج النار لكي يكتسب سمارها صفرة الذهب اللامعة.

 

دون أن تتطلع إلي أحس جسمُها بنظرتي الدهشة، فتمادت في انحنائها وأفسحت من فتحة الجلباب حتى تجاوزت عيناي نهديها وسقطت في ظلام الفراغ الذي صنعه ضمور البطن. نظرت في عيني مباشرة وهي تعتدل راضية فجفلتُ خجلا، ولكنها قلبت عينيها بابتسامة متواطئة. طلبت منها الورقة والمظروف فأحضرت لي مخلاة الكتان الصفراء التي تحتفظ فيها بأوراق ومظاريف ولفائف مجعدة من أشواق الزوج الغائب كنت مطلعًا عليها أولاً بأول.

 أخذت أشاغل نفسي بكتابة العنوان الذي أحفظه على المظروف.جاءت وجلست بجواري وقد دلّت رجليها خارج السرير وأيقنت من دفء النعومة التي تركتها لصق جسمي أنها لم تكن ترتدي شيئًا تحت جلباب له مظهر الاحتشام المخادع.

فار الشاي وأطفأ الوابور، قفزت مسرعة ورفعت الكنكة بعيدًا عن سحابة الدخان. صبت الكوبين جالسة على الأرض فرأيت قبة فينوس صفراء لامعة بما يشبه ورمًا خفيفًا مثل ذاك الذي تتركه في جبهتها عملية تزجيج حاجبيها. عادت بالكوبين على الصينية النحاسية المزينة برسوم غزلان ترعى في الصحراء. حاولت أن أفسح للصينية بيننا ولكنها وضعتها على يسارها وعادت لتجلس لصقي مباشرة، زحفتُ إلى الداخل فزحفتْ ورائي.

قالت ـ الرجال يخجلون ؟!

غمغمتُ بأشياء لم أفهمها أنا نفسي. أمسكتُ بقلم البسط، غمستُه في المحبرة وقلت: نكتب الرسالة؟

قالت باستسلام ـ نكتب!

انتظرت بأنفاس متلاحقة أن تمليني، ولكنها بدلاً من ذلك كانت تعبث بفتحة جلبابها  لتوسع من طوق الغواية، فرغم ملامحها الدقيقة الشهوانية وعظمة أقواس جسمها إلا أنها كانت تدرك أن روحها لا تتجلى بأغنى ما فيها إلا من خلال نهدي التحدي هذين. لا أستطيع أن أصف إحساسي الغامض في تلك السن، ولكنني لم أزل أستمع بعد كل هذه السنوات إلى ضجيج قلبي الصاخب كمضخة.

حَمَلَتْ المحبرة من أمامي إلى طاقة بالحائط لصق السرير وتَرَكتْ القلم جافًا كحلقي يرتعش في يدي، بينما واصلت زحفها حتى لم يعد لي سوى أن اخترق الحائط. أمسكت بيسراي وأخذت تمررها على وركها وهي تملي عليّ: قل له حرام عليك..أنا شابة، هذا مستحيل، قل له جسمي يوجعني!

أخذت تواصل الهذيان والزحف، ولم تكن الورقة ـ المهيأة بحكم وظيفتها للتنازل عن قدر معقول من براءتها ـ مستعدة لاحتواء هذا الفحيح. ولم أنتبه إلا بعد أيام إلى أنني ثنيت الورقة دون أن أكتب حرفا وأغلقت عليها المظروف، بعد أن تخليت من تلقاء نفسي عن القلم الذي تركته يسقط في المحبرة.

كان البريد أكثر كفاءة في ذلك الزمان، وقد فوجئت بعد أيام قليلة بعودة الزوج المتغرِّب؛ فالرجل الذي فشلت الرسائل المفعمة بالأشواق في إعادته على مدى سنوات طويلة؛ أعادته ورقة بيضاء موحشة. ولم تطلب الجارة خدماتي بعد ذلك أبدًا، كما أنني لم أكف عن الكتابة.

الآن، وبفضل حكمة الشيخوخة، أمسيت  أقل اعتدادًا بما أكتب، وقد أدركت أنني عشت طوال حياتي أترقب دون جدوى دخول زوجتي العزيزة ـ التي أتمنى ألا أكون أسأت إليها كثيرا ـ لكي ترفع من أمامي المحبرة.

ـــــــــــــــــــــــ

*الفصل الأخير من كتاب “الأيك” بعنوان “القصة الأخيرة”