لا تبدو آثار سنواته السبعين على جسده المنمنم. يلبي بخفة طلبات الفيلا التي يحرسها. يجلب الصحف لمن لم يزل يستعمل هذا الاختراع من الجيران ويمسح سياراتهم، يرتدي الجلباب وطاقية من وبر الجمل، على الرغم من أن ثلاثة أرباع عمره في القاهرة، مع عدة من سنوات أخرى في هافانا، حملته إليها مصادفة مدهشة، وترك فيها حبيبة وابنًا لم يره بعد ذلك أبدًا، وأكل الكباب من يد جيفارا، وهذا مجرد تفصيل في القصة لا يعتد به رسلان كثيرًا؛ فمن الصعب على من عاين المناضل الحي
أن يؤمن بالأسطورة.
تشي جيفارا؛ الأسطورة الخالدة بالنسبة للملايين حول العالم هي بالنسبة لرسلان مجرد “راجل طيب وروحه حلوة”! وهو يعرف أكثر مما يعرفه المثقفون عن تلك الفترة الثورية في أمريكا اللاتينية والوقائع غير الشهيرة بين الرفاق عشية الثورة الكوبية وأحلام التحرر اللاتينية المغدورة.
يعتقد رسلان أن تاريخ كوبا كان من شأنه أن يجري على نحو آخر لو أن كاميليو سيمفويجو هو الذي قادها وليس كاسترو. سيمفويجو المحبوب أطلقوا عليه لقب المسيح، لأنه كان، بشعره الطويل المصفف جيداً، يشبه أيقونات المسيح عليه السلام. وقد أُركب ذات يوم طائرة لم تعد حتى الآن من خليج الخنازير.
أما كيف ذهب أحمد رسلان إلى كوبا وكيف التقى بتشي جيفارا والرفاق الآخرين فتلك حكايته الخاصة، وهي أسطورة أخرى، وإذا كان جيفارا قد صنع أسطورته بالحرب فأحمد رسلان اختار الحب طريقاً لأسطورته الخاصة!
تبدأ وقائع القصة عام 1957 وكان أحمد رسلان وقتها شابا في السابعة عشرة عندما عمل في خدمة الدبلوماسي أرماندو جارثيا ريفيرا القائم بالأعمال الكوبي في القاهرة، وكان الصبي “أزفالدو” إبن ريفيرا في نفس سن رسلان ويقيم معه بدون أمه الإيطالية المنفصلة عن زوجها.
اتخذ أزفالدو من رسلان صديقاً ودليلاً إلى المجتمع المصري. وعندما انتهت خدمة القائم بالأعمال في القاهرة اصطحب ابنه ورسلان الذي لا يفارقه إلى مكتب الطيران لحجز تذاكر العودة، تقدم الدبلوماسي مع ابنه إلى موظفة الحجز، وجلس رسلان على مقعد الانتظار بعيداً، وبعد لحظات كانت الموظفة تستدعيه بإشارة من يدها، فتوجه إليها، سألته عن اسمه: قال أحمد رسلان.
قالت الموظفة: الاسم بالكامل.
أملاها فدونت وأعطته بطاقة السفر الخاصة به.
“إزاي أعمل إيه في كوبا؟ دا أنا حتى معنديش باظبورت!”
يتذكر عم أحمد دهشته في ذلك الوقت، لكن الدبلوماسي الكوبي كان ينفذ رغبة ابنه الوحيد في اصطحاب رسلان، وأكد له أن الباسبور ليس مشكلة على الإطلاق وأنه سيتكفل باستخراجه. وفي اليوم الثاني كان جواز السفر في يده بالفعل، وبعد أيام غادر مع الكوبي وابنه إلى هناك.
وبمجرد وصوله نسي رسلان أي تحفظ “البلد كانت جنة، الأناناس بيطلع شيطاني بدون ما حد يزرعه، والقصب يسيل منه السكر كالصمغ على عيدانه”.
بعد شهر واحد رفعت كوبا درجة التمثيل الدبلوماسي مع مصر إلى “سفارة” وقررت إعادة القائم بالأعمال الذي عرف القاهرة سفيرا، ولكن أحمد رسلان أقنعه بأن يبقى حارساً للفيلا في هافانا. لا يقول عم أخمد صراحة أنه ذاق حلاوة العشق في كوبا، ويرجع ذلك إلى حلاوة القصب، والأناناس، ما علينا! المهم أن الدبلوماسي ذو الأصول الرأسمالية وافقه وأوصى أخته وعمته بالشاب المصري خيراً:” كانوا في منتهى الكرم، كل أسبوع يملوا لي الثلاجة ويدوني فلوس كمان”.
ولم يكن وراء رسلان ما يفعله، فقط يتمشى في المدينة ويرتاد باراتها كان صعب في البداية الكلام الاسبانيولي، ولكنه يشهد أنه عاش. بالطول والعرض، هكذا دون تفصيل، ولأن أحداً غيره لم يظهر بالفيللا اعتقد الكثيرون أنه صاحبها وليس مجرد حارس، أما حب حياته فقد جاء بسبب رائحة شهية تسربت من مطبخ الفيللا ووصلت إلى خلايا الشم لدى أحد المارة، وكان يعرف رسلان معرفة سطحية من خلال مصادفات اللقاء المتكرر العابر في سوبر ماركت.
كان رسلان واقفاً بشرفة الفيللا ومر الشاب الكوبي ممتدحاً رائحة الطبخة التي لم تنضج بعد فدعاه لمشاركته إياها، ورد الشاب الدعوة بدعوة رسلان إلى منزله، وهناك تعرف بأخته إيفون كيروس بوبو.
اخترق كيوبيد بسهمه قلب الفتاة الكوبية والشاب المصري فتقدم لخطبتها ووافق أهلها على أن يستقر في كوبا. ولم يمانع رسلان الذي قرر أن هذه هي البلاد المقسومة له، مكتفياً من مصر برائحتها، من خلال تردده على الميناء لمقابلة السفن المصرية ومساعدة طواقمها في التنزه والتسوق بالمدينة في مقابل الحصول على الصحف والمجلات وبعض الهدايا التذكارية من مصر. كذلك عرف الطريق إلى السفارة المصرية، لذات الغرض تقريباً. ولم تكن رغبته في الصحف المصرية لمجرد التسلية أو تسقط أخبار الوطن، فحسب رسلان” كانت وسائل الإعلام هناك تقدمنا في صورة فظيعة، في السينما كان العرب يعني جلسة في الصحراء فيها نسوان بترقص ورجالة بتاكل بإيديها بشراهة . بدأت أروح المينا والسفارة وكانوا يدوني الجرايد والمجلات أقرا وأوري الصور للكوبيين. بدأت كمان أروح سفارة مصر وأجيب مطبوعات وأوزعها على الطلبة”.
كانوا يسألونه عن سر العداء بين المصريين واليهود، وكان يشرح لهم أن ذلك بسبب احتلالهم فلسطين.
صداقاته مع طباخي السفارة جعلتهم يستعينون به لمساعدتهم في الحفلات الكبرى:”في عيد الثورة مثلا كنت ألبس الإسموكنج وأساعد.. كان سفيرنا في ذلك الوقت عمر الجمال وكان الدكتور مصطفى الفقي سكرتير أول السفارة، هو يعرفني جيدا.ً. في إحدى الحفلات رأيت تشي جيفارا، كان بين المدعوين وكنت أقدم له السرفيس “شيش كباب” كانوا يحبونه وكنت أجيد عمله، التقط جيفارا قطعة أكل نصفها ودس النصف الآخر في فمي سألني “توجوستا، يعني بتحب دا، قلت له شكراً دا عشان حضرتك.. كان متواضع جداً ويضحك مع أي حد، وشفته في مناسبات أخرى، كانوا بيتحركوا في الشارع كده بدون حراسة هو وكاسترو”.
ذات يوم ذهب رسلان إلى الميناء، كانت السفينة كليوباترا على وشك الإقلاع، وأوصاه القبطان بالشيف حسن الذي يريد النزول إلى المدينة لمدة ساعة يشتري فيها بعض الأشياء لأولاده. وفي أحد البارات جلسا لتناول قهوة. يذكر أحمد رسلان ظروف الجلسة تماماً، إذ أعطاه الشيف حسن عدداً من “آخر ساعة” به موضوع عن برج القاهرة، وكان يحكي له قصة بناء البرج من واقع الموضوع المنشور، وفي تلك اللحظة دخل اثنان، ضربه أحدهما في صدره فدار به كرسي البار ووقع على الأرض. وعندما قام كان الشيف حسن يستعد للمشاجرة ولكنه منعه فربما كان الرجل سكرانا. وربت رسلان على صدر المعتدي وغادر مع رفيقه البار قاصدين الميناء. وبينما كانا يعبران جزيرة الشارع لحق بهما الشخص نفسه واعترضهما وأخرج مسدسا وصرخ :” سأقتلك يا فرعون”.
صوب المسدس وقبل أن يضرب أوقعه رسلان على الأرض وداس على يده، وإذا برصاصة تنطلق من الرجل الآخر لتستقر في كتف رسلان.
“ما حسيتش بنفسي إلا في المستشفى “.
ويكشف رسلان ذراعه التالفة تماماً حيث استؤصلت شرايينها، ولم يتبق سوى عظام نحيلة تحت الجلد وإصبعان من أصابع الذراع الخمسة. وربما يكون رسلان من أوائل البشر المضارين من الحصار الأمريكي لكوبا المستمر حتى اليوم، فلم يكن هناك العلاج المطلوب. لكن ليس هذا كل ما كان ينتظر رسلان في مغامرته الكوبية “طلعوا لي الرصاصة وسجنوني”.
المعتدي ضربه وسبقه واشتكى، مدعياً أمام الشرطة أن المسدس يخص رسلان، وبعد أيام في الحبس تبينوا الحقيقة عندما ضبطوا الخزنة الاحتياطية لدى المعتدي، فأطلقوا رسلان الذي صار عاجزاً بذراع واحدة، فقرر العودة إلى مصر. وذهب إلى بيت خطيبته مؤكداً لها أنه يحلها من الخطبة لأنه سيعود إلى بلاده وهو يعاني من عاهة الفقرالتي كان يأمل في الشفاء منها، ومع العاهة المستديمة الجديدة يتوقع أن يقابل أياماً أصعب. وإذا بالفتاة ترفض الانفصال عنه وتصر على ذلك:” لو كنت سليم، كنت سيبتك، كنت قلت لك إنت حر مع السلامة، لكن عشان الإصابة أبداً مش حاسيبك”.
وبالفعل تزوجا، وبعد عودة السفير على بلاده اضطر للعودة إلى مصر لأن الفيلا لم تعد فيللته:” تعبت معايا قوي إيفون.. سكنتها في أماكن كانت الفئران تطلع من البلاعة تتنطط علينا”. يسترجع عم أحمد بألم أربع سنوات في مصر دون عمل ثابت أنجبا فيها طفلين مات أحدهما في المهد قبل أن يتسمى وبقي ماهر. وفكر الزوجان في العودة إلى كوبا لكنهما لم يكونا يملكان شيئاً، كتبا لأمها التي كتبت بدورها خطاباً إلى الزعيم فيدل كاسترو، واستجاب فوراً حيث فوجئ الزوجان بمندوب من السفارة جاء، لكنه قال لرسلان إن كوبا ستتحمل نفقات سفر ابنتها، وعليه أن يتدبر وسيلة لسفره إن أراد أن يلحق بها وبابنها. ومرت سنوات لم يتمكن فيها رسلان من تدبير نفقات السفر وسنوات أخرى تكاسل مندمجاً في حياة جديدة “كنت بدأت أصلي وخايف من أجواء كوبا”. ولم يعد يعرف عن زوجته الكوبية ولا ابنه شيئاً!
وفي مصر كانت رحلة كفاح أخرى بدأها موزعاً للصحف، يركب الدراجة بيد واحدة ويوصل الصحيفة إلى المنازل في منطقة حدائق الأهرام، ليتمكن من إعالة أسرته التي صارت من ستة أبناء وأمهم. ولكن اللصوص مثل البشر العاديين بينهم الشهم والخسيس وابن الحرام، وقد تربص اثنان من النوع الأخير لعم أحمد في الصباح الباكر، وعندما رأوه يقترب بدراجته تفرقا إلى جانبي الطريق ولم ير أنهما مدا بينهما حبل غسيل اصطادا به الدراجة، وجرداه من جنيهاته القليلة ليجد نفسه مرة أخرى في مستشفى ويرقد في الجبس.
بعد أن تعافى لم يتمكن من تعويض الدراجة، يعيش بهموم أسرة كبيرة في مصر وذكرى إيفون و ماهر الذي لم يره منذ أربعين عاما تنغص عليه حياته. إلى ان فوجئ منذ ثلاث سنوات برسالة وصلت بطريقة أعجب من أن تأتيه عائمة في زجاجة.
ذات يوم ذهب عامل إلى بيت ملحق بالسفارة الكوبية لإصلاح شيء في سباكة البيت، وأخذ الدبلوماسي يدردش مع السباك حول رجل مصري يعيش في كوبا ويبحث عن والده. واستوضحه السباك فأخبره باسم رسلان، الذي كان بالمصادفة جاره”قال للملحق الدبلوماسي، دا جاري، أنقر له على الحيط يسمعني”.
وبدأت الاتصالات بين ماهر ووالده الذي تعلم الكتابة عبر البريد الإلكتروني . أخبره ماهر أن إيفون ماتت من عشر سنوات وأنه يعيش في ظروف صعبة مع زوجته وطفليه ويستغيث بأبيه أن يسهل له عودته إلى مصر. ومنذ ثلاث سنوات لم تنقطع مراسلاتهما، عم أحمد تعلم استعمال البريد الإلكتروني ليكتب لابنه ويتلهف كل منهما لرؤية الآخر لكن العين بصيرة واليد التي قصرت عن حمل الأب إلى كوبا لا تزال قاصرة وعاجزة عن حمل الإبن إلى مصر.