أين يقف المثقف؟ سؤال أصبح أهم من سؤال: ماذا يقول؟ لأن علاقة المثقف بالسلطة هي هاجس هذا العصر.
لا يقتصر الأمر على ثقافة دون أخرى. كل الجماعات الثقافية تجعل من المسافة التي تفصل مفكراً أو مبدعاً عن السلطة أحد محددات قبوله أو رفضه، وتسبق ربما مستوى فكره أو إبداعه.المنطق مفهوم، عندما يتعلق التقييم بمثقف ينتمي إلى اللحظة الراهنة، حيث يمكن الحكم بعدالة أكبر، لأن المثقف المتهم والمثقف القاضي يعيشان كلاهما في وجود السلطة نفسها، والظرف التاريخي نفسه.
والأمر يختلف بالنسبة للأحكام التي تصدر بأثر رجعي بحق مثقفين راحلين، مثل الإيطاليين السكندريين مارينيتي و أونجاريتي لتعاونهما مع الفاشية أو الفرنسي سيلين لموقفه من السامية.
والقول نفسه ينطبق على محاكمات مثقفين أحياء على شبابهم البعيد، مثل الضجة التي أثيرت منذ سنوات قليلة حول جونتر جراس وتعاونه مع النازية.
هنا تختلف المعايير، لاختلاف الظرف التاريخي، الذي ينتج اختلافاً على كل المستويات.
أولاً: اختلاف النظرة إلى الاتجاهات الفاشية والنازية، التي تعمق رفضها بناء على الكوارث التي خلفتها، بينما كانت في لحظتها التاريخية رد فعل طبيعي على إهانة الذات الوطنية في إيطاليا وألمانيا، حظي بالتفاف الغالبية الساحقة من المواطنين. إذن المآسي التي خلفتها الحرب هي التي خلقت الحساسية الشعبية والثقافية ضد هذه الاتجاهات، الاعتقاد بضرورة أن يكون المثقف قادراً في تلك اللحظة المشحونة على توقع ما ستؤول إليه الأمور، فيه نوع من المبالغة في قدرته، تترتب عليها مبالغة في الإدانة.
وثانياً: التضخيم الذي توحي به كلمة “تعاون” كما لو أن هناك طرفين متساويين يمتلكان الحق نفسه في التقارب أو الابتعاد، بينما قد نكتشف أن المثقف المدان كان مجرد جندي بلا حول أو قوة.
مثل هذه الاحتياطات يجب أن تؤخذ في الاعتبار، عند الحديث عن الماضي. وهذا لا يعني التغاضي عن قضية علاقة المثقف بالسلطة أو التقليل من أهميتها.
ومع الاحترام لكل الكتابات عن المثقف الملتزم والمستقل والناقد من جرامشي وصولاً إلى جاك دريدا وإدوارد سعيد، فإن المشكلة تنبع من التماثل بين السلطة والمثقف في الجوهر.
وإذا كان بمقدورنا أن نُعرِّف السلطة بأنها الطرف الذي يستطيع أن يُغيّر ويتحكم باستخدام القوة، فإننا بالطريقة ذاتها في التعميم، يمكننا أن نضع تعريفاً للمثقف بأنه الطرف الذي يسعى إلى التغيير والتحكم من خلال الأفكار والخيالات.
هذا التعريف يجمع كهنة المعابد الفرعونية مع فلاسفة اليونان مع الأنبياء ورجال الدين مع شهرزاد والفيلسوف الهندي بيدبا (مؤلف كليلة ودمنة) ونيتشة وداروين وميكيافيللي ومارينيتي وجونتر جراس وماركيز.
وإذا سألنا كاهناً أو عالماً أو شاعراً أو مفكراً لماذا تلتزم بهذا العمل، بينما بوسعك أن تعيش حياة أخرى أقل عناء، سنحصل على إجابات متعددة، عند تجريدها نجد أننا في مواجهة الرغبة في التغيير والتحكم، أي الرغبة في حيازة القوة.
إذن المثقف والسلطة لهما ذات الجوهر. وهذا الاتفاق، هو الذي سيجعل علاقة المثقف بالسلطة، موضوعاً بلا حل على مر العصور. ذلك لأن الطرفين يسعيان إلى بعضهما البعض، صداماً أو اتحاداً. في شكل دورات تتابع في الزمان، فعندما تماهى المثقف القروسطي مع السلطة (التطابق بين سلطة الكنيسة وسلطة الملك) ولدت أفكار التنوير، التي أعلت من شأن الفرد وحريته وحقه في الرفاهية، لكن هذا الحق في الرفاهية هو الذي سينتج لاحقاً التوحش الاستعماري الأوروبي.
وبالمثل فقد أسس قانون البقاء للأصلح الذي وضعه داروين، مع نظرية القوة لدى نيتشة للروح العنصرية التي وجدت في الهزائم الوقود اللازم لإشعال نيرانها.
هكذا يمضي التاريخ في دورات. ولا تمنع التجارب السيئة في السابق الوصول إلى النقطة ذاتها مرة أخرى، مثلما لم توقف آلام الفشل في الحب أجيالاً جديدة من خوض التجربة، ومثلما لا تمنع كل التعاليم الدينية والأخلاقية ظهور مذنبين جدداً.
العلاقة بين الطرفين أزلية، وباقية ما بقيت الحياة، لكن الوعي بها هو الحديث.
وبكل الأحوال من المستحيل الحديث عن استقلال تام للمثقف، لأن الحضارة تحتاج إلى الطرفين لكي تتجسد في كيانات مادية ملموسة، ولنتصور مثلاً حجم ما كان يمكن أن يبقى من الحضارة الفرعونية، لو كان المعماري والنحات المصري مستقلينً تماماً عن السلطة، أو أن المؤرخ رفض تدوين بطولات الفرعون على جدران المعابد؟!
الفرعون يبني جيوشه، ويخوض حروبه، ثم ينتهي إلى الموت، والمعماري يحلم بأهرامات ومعابد وقصص بطولة من دون أن يبني أو يترك أثراً!
كلا النوعين من القوة ضروري لبناء الحضارة، على أن يكونا في حالة حركة مشدودين إلى بعضهما كطرفي المقص، فلا يمكن للمقص أن ينجز عملاً إذا ثبتنا سلاحيه مفتوحين ومتباعدين أو إذا ثبتناهما في حالة انطباق وتماثل كاملين.
أي أن حركة التاريخ تنبع من الحركة بين الطرفين، وليس من مجرد وجودهما. وهكذا ستتعايش نماذج المثقف الرسولي الرافض على طول الخط، مع المثقف التكنوقراطي أو الأداتي، الذي يبيع قوة عقله لأية قوة تدفع، مع نوع ثالث يحمل النوعين في داخله، حيث المثقف الذي يعمل على تهذيب السلطة (شهرزاد وبرزويه الطبيب وابن المقفع بترجمته لكتاب كليلة ودمنة) مع المثقف الذي يخترع فكرة العدوان للسياسي (مثل نيتشة وميكافيللي) مع صاحب المشروع ، الذي يكتشف أن سلطة ما تتطابق مع ما يؤمن به، فينخرط في خدمتها، مثل مارينيتي.
وإن شئنا التمثيل بمثال من مصر، فإن الشيوعيين الذين سجنهم عبدالناصر كانوا يرسلون له برقيات التأييد من داخل السجن، لأنه برأيهم قد نفذ كل ما كانوا يحلمون به!
الشيء نفسه يمكن أن ينطبق على مارينيتي ورفاقه المستقبليين الذين وضعوا على عاتقهم تدمير الأبنية القديمة.
التغني بالخطر، التهور، الحركة، والافتتان بجمال الصراع. قيم المستقبلية التي تتشابه في جوهرها مع التمرد الذي حمله الفاشيون. وكلاهما سيعمل على تطبيق رؤيته، فلماذا لا يتعاونان؟!
لكن ما الذي سيحدث بعد ذلك؟ ستنتهي الفاشية، وسيتخلى مارينيتي عن تهوره. لكننا سنحافظ على تحفظنا ضده، من دون أن نعرف الأسباب التي أشعلت نار تمرده، ولا أسباب انطفاء هذه النار.
ولكي لا نقع في الخطأ نفسه، علينا أن نعترف بنسبية الخطأ والصواب، وألا نحكم بمقاييس عصر على عصر سابق.
فإذا كان تعاون شاعر مع الفاشية في أوائل القرن العشرين مداناً من جانبنا، فعلينا أن ننظر لعقلانية وإنسانية زماننا في علاقتها مع توحش آلة الحرب الأمريكية، فلربما ولدت بعد سنوات حركة تعيد تثمين الفوضى والدمار، وتدين سكونية الفكر التي ظلت بعيدة عن التأثير. حيث طرفا المقص مفتوحين على آخرهما.
وقد رأينا كيف واصل نعوم تشومسكي واليسار الأمريكي والأوروبي رفضه لسياسات بوش، بينما واصل بوش غزواته التي وضعت العالم على حافة الهاوية.
الأمر نسبي.