في 18 ديسمبر 2010 تفجرت الثورة في تونس، ثم تبعتها مصر، فاليمن، ليبيا، ثم سورية، فيما عُرف بـ “الربيع العربي”. والملاحظ أن الدول الخمس جمهوريات، استقلت عن الاستعمار في خمسينيات وستينيات القرن العشرين بأحلام كبيرة في الحداثة.
كانت الدول الخمس تطبق درجات من العلمانية المشوهة حسب فهم أنظمة حكمها ذات المرجعيات العسكرية، وحسب المواءمات والصفقات السياسية التي تضطر لها السلطة الآخذة في التآكل، بسبب تلازم تزايد الفساد مع زيادة نفوذ الجماعات الدينية.
تونس كانت الوحيدة التي طبقت نظامًا علمانيًا قسريًا، أبرز ما فيه المساواة التشريعية بين الرجل والمرأة في قوانين الأحوال الشخصية، في تحد صريح لأحكام الشريعة الإسلامية، بينما طبقت مصر رؤية تلفيقية للتحديث تمثل تراجعًا عن حداثتها التي بدأت منذ بداية القرن التاسع عشر، وطبقت سورية حداثة اجتماعية يفرضها تعدد الطوائف دون أن تمس هذه الحداثة جوهر نظام سياسي طائفي يتخفى تحت مزاعم يسارية قومية، وكانت اليمن أقرب إلى التلفيق المصري منها إلى النظام التونسي أو السوري، أما الجماهيرية الليبية العظمى، فلا يستطيع أن يصف نظامها السياسي إلا الله والعقيد القذافي!
والغريب أن هذه الجمهوريات شكلت عند إعلانها في منتصف القرن العشرين تهديدًا لأنظمة الحكم الملكية غير الدستورية في الخليج العربي. وبدلاً من أن تتحقق مخاوف حكام العربية السعودية والإمارات الصغيرة بالخليج وتتحول بلادهم إلى جمهوريات، حدث العكس تمامًا حيث تبنت الجمهوريات العربية البنية القبلية الخليجية، ودخلت جميعها إلى الألفية الثالثة بوريث جاهز للمنصب الرئاسي، إما ابن أو شقيق أو زوجة الرئيس، باستثناء لبنان، البلد الصغير القائم على التوازنات الطائفية، والذي لا يملك سيادته.
أسباب هذا التحول متعددة، لكن السبب الرئيسي هو اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، فقد أغلقت هذه الاتفاقية طريق الحرب مع أكبر دولة عربية، لكنها لم تفتح باب السلام كاملاً، بل بقيت قضايا الأرض معلقة بين إسرائيل والأطراف العربية الأخرى.
وقد كانت الحروب سببًا في تحقيق شيء من حيوية السلطة بمساهمتها في تغيير وجوه الطبقة العسكرية الحاكمة، إما بالموت في الحرب أو الإقالة بسبب الهزيمة. وكان من شأن السلام الكامل أن يجرد الرئيس العربي من مبررات الاستبداد ويفتح بابًا للتغيير الديمقراطي، لكن حالة (اللاسلم واللاحرب) التي خلقتها كامب ديفيد أتاحت حالة من الركود السياسي سهلت العبث بالدساتير كي تسمح ببقاء الرئيس مدى الحياة، ثم امتد العبث ليسمح بتوريث منصبه!
عالمان في تصادم
وجاءت لحظة الربيع العربي بعد انقضاء العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تعبيرًا عن الصدام بين قطارين يسيران في اتجاهين متعاكسين على ذات القضيبين. قطار السلطة الذي تتقهقر إلى قيم القبيلة وقطار الشباب الذي توغل سريعًا في قيم الفردية والمساواة بفضل ثقافة جديدة متعددة المصادر، وبينها الإنترنت.
ورغم أن رصاص الأنظمة المتهاوية لم يفرق بين الرجل والمرأة في ميادين الحرية، فقد خصت المرأة بتنكيل إضافي، إذ حولت جسد الأنثى إلى ساحة حرب؛ فكشفت هذه الأنظمة عن أصالة تخلفها وزيف العلمانية التي تدعيها.
كان الاغتصاب والتهديد به، وإخضاع الشابات المعتقلات إلى فحوص العذرية أساليب لترويع المرأة وإجبارها على الانسحاب، وإلى جوار هذه الجرائم، جرت عملية تزييف لصورة المرأة لخدمة الخطاب الدعائي للنظام.
ولأن المستبد يُقلد ولا يبتكر، فقد تم اللعب على الحدود القصوى لغرابة الجسد الأنثوي التي أرستها رسوم وكتابات المستشرقين الأوائل، حيث تتأرجح صورة المرأة العربية بين أقصى العري (في الحمامات العامة وحفلات الجنس وأسواق النخاسة) وبين أقصى الإخفاء تحت طبقات الملابس والأقفال على أبواب “الحرملك”.
اجتهدت الأنظمة لرسم صورة “المرأة المتهتكة” للثائرات، وخصصت هذه الصورة للساحة المحلية، منأجل تنفير الفئات الاجتماعية المحافظة من فكرة الثورة والضغط على الأسر لسحب بناتها من الميدان، أما صورة المرأة المختفية تحت النقاب الأسود فتم تخصيصها للتصدير للخارج، من أجل تمرير الادعاء بأن الحراك يقوده المتطرفون الإسلاميون.
ولم يكن من السهل إثبات هذا الادعاء من خلال صورة الرجل في ميادين تهتف “سلمية، سلمية” لكن كان من السهل تحقيقه من خلال صورة المرأة المنقبة، لأن اللحية، إن لم تكن مقرونة بسلاح في اليد، لا تمثل نقيضًا أيديولوجيًا للقيم الغربية، بينما يمثل النقاب وحده ذلك النقيض البارز.
ابن علي الأقل خسة
” إنها ثورات إسلامية ولن تكون مصالحكم مضمونة بعد سقوطي” هكذا قال زين العابدين. ومن دون ابتكار أو تجديد استخدم مبارك الاستراتيجية نفسها في مصر، واستخدمها علي عبد الله صالح في اليمن، والقذافي في ليبيا وبشار في سورية. كلهم قالوا إن تنظيم القاعدة وراء ما يحدث ببلادهم.
ورغم أن بن علي كان أول من حاول شيطنة الربيع العربي، فقد كان سقوطه سريعًا. ولم يجد الوقت الكافي لتزييف الصور من أجل إثبات مقولته. بل على العكس، انتشرت صورة لفتاة عصرية محمولة على أعناق رفاقها الشباب، فأسقطت ادعاءه. والحق أن بن علي كان الأقل خسة بين الرؤساء الساقطين، ذلك لأنه كان أكثرهم إخلاصًا للعلمانية في مجال المجتمع التي أرساها سلفه بورقيبة. ولم يلجأ إلى التشويه الأخلاقي للمرأة مثل بقية الأنظمة.
في مصر تلازمت محاولات بث الرعب من الغول الإسلامي مع التشويه الأخلاقي للثوار. وكان هذا العبء مسئولية المرأة وحدها. أخذت كاميرات القنوات الحكومية والقنوات العربية المساندة للنظام توزع وقتها بين الزوايا الخالية في ميدان التحرير للتقليل من حجم الاحتجاجات، وبين تجمعات المحجبات والمنقبات لإثبات الهوية المتطرفة للحشود.
كانت المحجبات جزءًا من مكونات الثورة المصرية، لكن الحجاب لم يعد يمثل أكثر من عادة اجتماعية لدى عدد كبير من بنات الجيل الجديد، جيل الإنترنت، المؤمن بقيم الحرية الفردية والمساواة. وكان هذا الإيمان بالضبط هو الذي استغله النظام لرسم صورة الفتاة المتهتكة للثائرة.
واستضافت محطات الإذاعة والقنوات التليفزيونية فنانين ونجوم كرة قدم مقربين من النظام يصفون حفلات جنس جماعي وتعاط للحشيش يجري ليلاً في خيام ميدان التحرير. هذا الزعم، وإن استهدف ذكور وإناث الثورة إلا أنه لم يصب إلا النساء؛ فالعبث الجنسي في المجتمعات العربية سبب لفخر الرجل لا إدانته.
وبعد سقوط مبارك، اكتشف الثوار أن الذي سقط لم يكن سوى رجل طاعن في السن، نال جزاءه لأنه حاول نقل وراثة الحكم من أسرته المهنية “الجيش” إلى أسرته الطبيعية. سرعان ما استعاد النظام عافيته، وخلال موجتين ثوريتين لم تتغير إلى اليوم شراسة التعامل مع المرأة المعارضة، فاستمرت عمليات الاغتصاب وتوقيع الكشوف المهبلية على المعتقلات، من أجل حرمان الحراك الثوري من نصفه الحلو.
مصادرة التنوع
في اليمن كانت المرأة في المقدمة. بدأت الثورة اليمنية في فبراير 2011 بحشود المرأة التي احتلت الصفوف الأولى في الميدان، استغلالاً للقيم القبلية التي تعتبر الاعتداء على المرأة عارًا يلحق بالمعتدي. ولم تكن لدى علي عبد الله صالح الترسانة الإعلامية التي تسمح له بتزييف الصورة، ولم يكن هناك جزء سافر وآخر منقب في الميدان لكي يتلاعب الإعلام بهذا التنوع، بل كان هناك العباءات السوداء الموحدة، وسرعان ما اكتشف العالم إمكانية أن يكون الرأس مقيدًا من الخارج وحرًا من الداخل.
لكن هذا التناغم تحت النقاب لم يكن صحيحًا؛ فعلى عكس ما جرى للمرأة المصرية، تمكنت دعاية فصيل من الثورة اليمنية في تعميم صورة واحدة للمرأة “الملتزمة التي لا تخالف شرع الله” حسب خطة وتوجهات حزب الإصلاح الإسلامي (فرع من تنظيم الإخوان المسلمين) الذي تمكن كذلك من فرض إحدى عضواته “توكل كرمان” على الساحة الدولية حتى حصلت على جائزة نوبل للسلام.
لم تكن هذه الصورة المعممة صحيحة، ولم يكن خروج المرأة اليمنية مفاجئًا في ثورة 2011كما جرى تصويره، فقد كان اليمن دولتان حتى عام 1990، وكانت دولة اليمن الجنوبي شيوعية، وقد ارتدى عدد كبير من نسائها الزي العسكري وساهمن في الحرب ضد الاحتلال خلال ستينيات القرن العشرين، حتى تم تحرير الجنوب وإعلانه جمهورية عام 1967 وظل حضور المرأة الجنوبية العام مختلفًا عن حضور المرأة في اليمن الشمالي المحافظ.
ليس للجرذان جنس
وأما ليبيا، تلك الصحراء الممتدة، فكانت مثل صندوق أسود، لا يعرف العالم منه سوى القذافي ونحو ثلاثمائة امرأة تحرسنه. لم يدخل الحرس الأنثوي في تجربة دفاع حقيقية عن العقيد، لكنه نافس السينما الأمريكية في تأجيج الخيال الجنسي حول المحاربات الأمازونيات.
ظلت حارسات القذافي المجهولات مركزًا للاستيهام الخيالي والتصورات حول علاقتهن بالعقيد، وعندما بدأت الاضطرابات اختفين تمامًا، وكأنهن كن يؤدين فقرة في سيرك استمرت سنوات طويلة. في قلب الأزمة لم يظهر سوى الرجال حول القذافي، حتى أولاده ورثة الحكم، ظهر الذكور ولم تظهر ابنته الجميلة عائشة صاحبة الحضور الأدبي (الذي كان زائفًا كذلك كحضور حارساته الأمازونيات).
اعتبر القذافي معارضيه مجرد جرذان، وهذا بحد ذاته يجعل فرز الفأر من الفأرة مجهودًا بلا طائل. مع ذلك كان جسد المرأة الضد مباحًا للاغتصاب، وقد سمع العالم كله بقضية إيمان العبيدي المحامية التي قالت إنها تعرضت للاغتصاب من رجال القذافي، بينما شككت البيانات الرسمية في قواها العقلية.
تأنيث السلطة
في سورية كان النظام حريصًا على صناعة صورتين متناقضتين للمرأة السورية، فقد حرص منذ بداية “الأزمة” على تأنيث سلطته. وحافظ على أن تتصدر الأنثى الحديث باسم النظام، خصوصًا للإعلام الأجنبي.
بخلاف بثينة شعبان، كانت هناك متحدثات أخريات مثل سميرة مسالمة رئيسة تحرير جريدة تشرين التي أبعدوها عن منصبها بعد أن ظهرت مرتين أو ثلاثة على الشاشة، حيث لم يغفروا لها دمعة لمعت تحت كلماتها المؤيدة لبشار، حزنًا على شباب عائلتها وشباب محافظتها درعا.
لكن الاستغناء عن امرأة، لم يوقف تقليد إعطاء صدارة المشهد الإعلامي للمرأة، وحتى عندما يكون حضور الرجل ضروريًا في المحافل الدولية بحكم منصبه، لابد أن يظهر خلفه في الكادر وجه امرأة جميلة. وقد تداول الناشطون في مواقع التواصل الاجتماعي صورة وليد المعلم مع سؤال عن الجميلة التي خلفه، في قياس ساخر على الصورة التي تداولها الناشطون المصريون لنائب الرئيس المصري عمر سليمان لحظة إعلان تنحي مبارك، متسائلين عن الرجل الواقف خلف عمر سليمان!
وفي الحقيقة كانت المرأة جزءًا من بنية النظام السوري طوال الوقت، لكن ذلك في إطار حداثة شكلية، تستعمل المرأة للتزيين ولا تحترم دورها حقيقة، بدليل الصورة الأخرى التي حاول النظام نفسه رسمها للثائرات. وقد صدرت في السنوات الأخيرة بعض الكتب التي كتبتها نساء تحكي بعض ما تتعرض له السجينات السوريات في المعتقلات. وقد وجدت الكثير من الناشطات في الثورة السورية أنفسهن بطلات لشائعات جنسية مشينة تروجها دعاية النظام ضدهن.
اتهامات فردية، تناسب طبيعة الثورة السورية الراكضة من شارع إلى شارع، بعكس الثورة المصرية الثابتة في الميادين، التي يمكن فيها تمرير ادعاءات حفلات الجنس الجماعية.
ولم يبذل النظام السوري جهدًا لإكمال الإثارة الاستشراقية؛ لم يختلق صورة المرأة المنقبة، لأنه شرع منذ البداية في تحويل الثورة السلمية إلى حرب طائفية حقيقية لا مجرد تزييف للصورة. فتح أبواب السجون للمتطرفين الإسلاميين والمجرمين، وفتح الحدود مع العراق أمام الميلشيات المسلحة، وسرعان ما نسي العالم، ثورة شديدة الرقة كانت تغني، وأقصى هتافاتها كان “ما منحبك”. أصبح الصراع مسلحًا بالفعل. وعلى الرغم من أن الدماء التي سالت في هذا الصراع العبثي، إلا أن صورة المرأة لم تسلم من الأذى. ظهرت الحكايات غير الموثقة عما يسمى بـ “جهاد النكاح” أي استلقاء المرأة مع المحاربين الإسلاميين للترفيه عنهم، في إعادة تدوير لدور البغي المقدسة في الديانات القديمة، بينما تعيد الأنظمة الساقطة تماسكها من جديد، متجاهلة كل الدماء التي جرت في أنهار هذا الربيع.