حدود عمق الدولة العميقة

سواء كانت إرادة شخص أو إرادة أجهزة الدولة التي يشار إليها بـ “العميقة” أو إرادة جماعة مصالح وراء الإجراءات التي جعلت الانتخابات تجري على هذا النحو الذي رأيناه؛ فالنتيجة لا تنم عن أي عمق.

لكن، الحق يقال، أن تلك الإرادة الشجاعة تمكنت من تحقيق معجزة، إذ قالت للزمان إرجع يا زمان فرجع الزمان غصبًا عن عينه، هو الذي سبق أن عاند أم كلثوم ومرسي جميل عزيز وبليغ حمدي معًا!

استجاب الزمان لإرادة الدولة العميقة ورجع بنا إلى لحظة انتخابات 2010 واضعًا غطاء على مرجل يغلي منذ خمس سنوات، داخله الكثير من الدماء والتضحيات دفعتها الطبقة الوسطى الواعية والمحركة للتاريخ (حتى لا نستخدم الكلمة حمّالة الأوجه: الشعب).

والشيطان وحده يعلم كيف يتصور أحد أن إحكام الغطاء فوق القدر يعني أنه كف عن الغليان، والشيطان وحده يعلم من أين يأتي المنتصرون في مباراة بلا منافس بمظاهر الفرح وهطل الرضا عن النفس!

العمق الوحيد الذي تتمتع به الدولة العميقة، ويشهد به الأعداء قبل الأصدقاء، أنها كفت عن العبث الفج بالصندوق، هذا ما تفعله الديكتاتوريات السطحية، العمل في الدول العميقة يبدأ قبل لحظة التصويت، بضبط درجة حرارة المعمل وتغيير المقادير لكي تأتي التجربة في الصندوق بنتائج مختلفة.

بدأ إعداد المسرح منذ انصراف الثوار من ميدان التحرير يوم 11 فبراير 2011 وتسارعت الوتيرة بعد 30 يونيو لتصحير الساحة السياسية. قيادات الشباب التي نجت من السجن أُلقي بهم لذئاب الفضائيات مع بعض من تسجيلات، لكن الثورة لم تكن شبابًا فحسب كما تعتقد الدولة العميقة، التي لا تترك مناسبة إلا وتبرهن فيها على قلة عمقها!

كان في الثورة شيوخ وكهول، بالهم أطول من بال شباب الثورة، وظلت لديهم بقية من أمل في برلمان يؤسس لبداية استقرار سياسي، تقدموا بقائمة نظيفة تضم مرشحين من كل الأطياف، يجمعهم فقط عمق الثقافة وعدم الانتماء للحزب الوطني أو التيارات الدينية. وأعني هنا قائمة “صحوة مصر”. وقد كان لي شرف المساهمة ببعض الجهد لصالح هذه القائمة،  والقصة تستحق تُروى، لكن هذه المساحة تضيق بتفاصيلها. لكن باختصار، تم التضييق على القائمة وإثقال كاهلها باشتراطات جعلت مشاركتها مستحيلة، فأعلنت انسحابها، وكان هذا الإعلان تحصيل حاصل لبدعة إعادة الكشف الطبي وفي غضون ثلاثة أيام!

لو كانت “لو” تصلح في صناعة التاريخ، لقلنا إن  وجود قائمة “صحوة مصر” كان كفيلاً بصنع معركة انتخابية حقيقية، تسفر عن برلمان غير مثالي، لكن مقبول. وفي غيابها عادت الانتخابات إلى تاريخها المعروف في قبضة المال والعصبيات العائلية تحت مظلة الحزب الوطني المنحل وفزاعة دينية مستهلكة، وجاء رد الناخبين بالإقبال الضعيف، الذي لم يفاجيء أحدًا باستثناء الفتوات من المرشحين والدولة قليلة العمق والحيلة. وكان أن تحولت الانتخابات من معركة بين المرشحين إلى معركة للمرشحين مع الناخبين!

عادت كل وسائل التوبيخ الوطني والتهديد بالغرامة والترويع الديني لكاتم الشهادة. لكن هذه الأساليب لم تجد نفعًا، واستمتع الناخبون بأيام الإجازة دون أن يهرعوا إلى نداء واجب الاختيار بين أحمد أو الحاج أحمد. وسيتسلى الناجحون باحتفالات النصر، ليكتشفوا مع أول جلسة بالبرلمان أنهم ظلموا أنفسهم، وأن أكثر أعدائهم شرًا ما كان بوسعه أن يؤذيهم الأذى الذي قدموه لأنفسهم بإصرارهم على تحمل المسئولية وحدهم في لحظة حافلة بالأزمات!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* نشر بصحيفة المصري اليوم