بوسع السائق أن يرتكب حماقته، ويخرج له بالون الأمان من عجلة القيادة بينما يتلقى المسكين على المقعد المجاور الصدمة المميتة!
ذلك هو الرجل الثاني، ويمكن تشبيه مقعده من جهة أخرى بكرسي الأم في نظام الأسرة، فالأم تطبخ وتغسل، لكنها هي أيضاً التي تنهر الأطفال وتمنعهم من وضع أصابعهم في أنوفهم، وتلزمهم بإنجاز واجباتهم المدرسية الثقيلة، وتكون آخر من ينام في البيت، منهكة ومحرومة من رضا الآخرين، بينما يأتي الأب الغائب طوال اليوم ليقبل الدمى الصغيرة قبل نومها.
كرسي الرجل الثاني لا يصلح للجلوس، فهذا الموقع موصوف إدارياً بأنه الأسوأ بين المواقع، من حيث الأحمال والمخاطر والقلق؛ في أي موقع كان الرجل الثاني، من نائب رئيس الجمهورية إلى نائب رئيس عربة عصير في الشارع، مروراً بما بينهما من كراسي نواب الوزير ووكلاء الوزارة ومديري التحرير في الصحف والمجلات.
هكذا يمكن وصف الرجل الثاني بـ «الرجل الواقف» لديه كرسي كالآخرين تماماً، لكن نادراً ما يجد الوقت ليجلس عليه، وإن وجد الوقت فعليه ألا يستريح بكل وزنه؛ لأن طبقة من الأشواك تفصل بين مقعدته وسطح الكرسي لا سبيل إلى إزالتها.
يختلف الأمر قليلاً أو كثيراً بين نظام ديموقراطي ونظام دون ذلك. والنظام يشمل بالضرورة كل مفاصل المجتمع، من قصر الرئاسة وقصر المُلك إلى أصغر وحدات الدولة.
في النظام الديموقراطي يحقق كرسي الرجل الثاني لصاحبه قليلاً من الغبطة؛ فهو مقدر بوصفه الضامن لاستمرار النظام والتقاليد الإدارية. تأتي وزيرة دفاع في بريطانيا، سيدة من خارج السلك العسكري تهتم بسياسات الدفاع حسب رؤية حزبها، لكنها لا تستطيع أن تضغط الزناد، من يفعل ذلك ويضع الخطط هو رئيس الأركان.
في مصر الليبرالية قبل يوليو أعادها الله كانت الوزارات تتغير وتأتي بوزرائها، من الحربية إلى الري، وما يضمن سلامة الحدود وجريان النيل هم وكلاء الوزارات، الذين يحفظون التقاليد ويعلمون الأجيال الجديدة أسرار الوظيفة.
في النظام الدون، يوجد الرجل الثاني ليقوم بكل ما يقوم به نظيره في النظام الديموقراطي، لكنه يفعل ذلك تحت الكثير من صنوف التنكيل؛ فهو حشوة الساندويتش مضغوط بين طبقتي الخبز من فوق ومن تحت.
لا أحد في الطبقتين يحب الحشوة أو يقدر على غيابها؛ فالرجل الثاني ضرورة عملية لبقاء الطبقتين.
والريبة شعور إنساني طبيعي، تحجمه الديموقراطية، لكنه ينفلت في النظام الدون ويصبح محور الحياة. وإذا لم تكن ثمة حاجة عملية لوجود رجل ثان في موقع ما، تبقى هناك حاجتان تجعلانه ضرورة: حاجة الرئيس إلى رجل يكون محل ارتيابه وحاجة المرؤوسين إلى رجل يكون محلاً للشكوى منه، دون أن يتعرضوا للعقاب.
استعداد الأب للريبة جاهز، والأطفال الأشرار الباحثون عن مزيد من التدليل والتسيب يقدرون هذا الاستعداد؛ ويعرفون أن الطريق الأقصر هو الوشاية بالأم التي أهملتهم، ولم تلبِّ طلباتهم، وربما دسوا لها: «كانت مشغولة بالحديث بحقك مع أمها»!
قد تصل الريبة إلى حد المرض فيمتنع الرئيس عن تعيين نائب له؛ مثلما فعل حسني مبارك طوال ثلاثين عاماً. وقد كان التفسير المنطقي لسلوكه حسب تحليل من تنعتهم الفضائيات بـ «الخبراء» هو أن مبارك استوعب درس اغتيال السادات فأراد أن يظل الرجل الضرورة بلا بديل، بينما يقول رواة الأخبار إن عرّافة سودانية تنبأت للرجل بأن يصبح رئيس مصر، وكانت نبوءة مدوِّخة في وقت كان يحلم فيه بمجرد منصب ملحق عسكري في سفارة مصر بلندن ليعيش في بلد «الإكسلانسات» كما صرّح بعد ذلك!
وعندما تحققت النبوءة الخيالية وأصبح رئيساً، تحول إلى مدمن للعرافات، وقد حذرته تونسية هذه المرة: ستفقد كرسيك في العام الذي تعين فيه نائباً، وقد كان.
تبقى حالة مبارك في الارتياب معيارية، إلى حد رفع كرسي الرجل الثاني تماماً، بينما هناك كثر غيره يضعون للرجل الثاني كرسياً، على أن يضمنوا أنه غير قابل للاستعمال، ليظل الرجل الذي خلف الرجل الأول واقفاً.
الطريف أن الموظفين في المواقع الأدنى من موقع الرجل الثاني يستطيعون الجهر بطموحهم في الترقي، لأنهم سيصعدون إلى مصطبة أخرى عريضة تتسع لعدد كبير، لكن الرجل الذي تحت القمة مباشرة لا يستطيع أن يفعل ذلك، لأن إعلان هذا الطموح المشروع يعني إزاحة رجل محدد، والمرؤوسون يعرفون هذه البديهة التي تصلح مساحة للوقيعة بين الرجلين!
هم بحاجة إلى المزيد من التدليل والتسيب، ويعرفون أن الرجل الأول يخاف من انقضاض الرجل الثاني، ويغذون لديه هذا الخوف بإشارات لا تخفى، خصوصاً إذا اكتشفوا أنه من النوع الذي تتناهبه الوساوس، وهذه هي المقدمة الضرورية للشكوى من قرار للرجل الثاني يرونه مجحفاً.
والرجل الأول يعرف أن قرارات الرجل الثاني ضرورية لبقاء النظام، وفي قرارة نفسه يراها صواباً ويجب أن تطبق على المرؤوسين، على أن تبقى ممهورة بخاتم الرجل الثاني «حمّال الكراهية» ولكي يتمكن من ذلك يرد على وشايتهم بأحسن منها: آه لو تعلمون قراراته الأخرى التي أبطلتها من دون أن تشعروا!
لكل هذه الأسباب ينصحون الرجلين «اختر جيداً لأنك تختار عدو المستقبل». وإذا كان بيد الرجل الثاني أن يختار الرجل الأول الذي يعمل معه، فليختر القامة، أما الرجل الأول فيجب أن يختار الأخلاق، وهكذا يحصل كلاهما على خصومة شريفة إذا جاءت لحظة الصدام.