فرانسوا دون كيخوتة يتعهد بحرب ضد الأشباح!

في هذه اللحظة نحن أمام عالم مختلف تمامًا، يبدو أن الحكومات لا تريد الاعتراف به. وهو تراجع الدولة الوطنية خطوتها الثانية في مواجهة قوى عولمية لا تعترف بالأوطان. كان الانسحاب الأول للدولة الوطنية أمام قوى المال متمثلة في الشركات العملاقة والتحالفات الاقتصادية العابرة للحدود التي حققت النصر النهائي لليبرالية المتوحشة.

 

في الكلمة التي ألقاها اليوم (السبت) وصف الرئيس الفرنسي فرانسوا أولوند العمل الإرهابي بـ “الجبان” وهذا هو أول الخطأ في توصيف الأعمال الإرهابية الانتحارية سواء تلك التي يفجر فيها الإرهابيون أنفسهم  بأحزمة ناسفة أو تلك التي يهاجمون فيها أهدافًا بالرصاص وهم يعرفون أن فرص نجاتهم تقترب من الصفر. التوصيف النفسي الأدق لهذا الإرهاب هو” الشجاع” دون أن تحمل الكلمة أية دلالة قيمية إيجابية. وإن أرادنا توصيفًا سلبيًا؛ فقد كان على أولوند أن يصف ذلك العمل بـ “الخسيس”. وهو خسيس بلا أدنى شك في مهاجمته لأبرياء مسالمين.

دقة الوصف، مهمة وضرورية إذا كانت الدول المعنية جادة في تحقيق النصر على هذا العدو. الإرهابيون اشتروا الموت، وهم مجرمون من ناحية، لكن وجود جثامينهم بين جثامين الضحايا يؤكد أنهم ضحايا من جانب آخر. هم ضحايا ديكتاتوريات الشرق الأوسط التي يتحالف معها الغرب، ضحاياتحويل الربيع العربي إلى فصل من الجحيم، والدول الغربية ليست بعيدة عن هذه المؤامرة، وضحايا حالة الفقر في الضواحي الفرنسية، ولولا الديكتاتورية في الجزائر وسائر بلاد الشاطئ الجنوبي في المتوسط ما كان لدى فرنسا حزام الفقر العربي المسلم في أغلبه.

في هذه اللحظة نحن أمام عالم مختلف تمامًا، يبدو أن الحكومات لا تريد الاعتراف به. وهو تراجع الدولة الوطنية خطوتها الثانية في مواجهة قوى عولمية لا تعترف بالأوطان. كان الانسحاب الأول للدولة الوطنية أمام قوى المال متمثلة في الشركات العملاقة والتحالفات الاقتصادية العابرة للحدود التي حققت النصر النهائي لليبرالية المتوحشة.

لكن تلك الليبرالية لم تنجز نصرها النهائي المتمثل في نزح ثروات شعوب الجنوب نحو الشمال (لفائدة طبقة واحدة من سكان الشمال) حتى تحرك الجياع والخائفين من الجنوبيين نحو الشمال سعيًا وراء اللقمة والأمان. وكان هذا هو الانسحاب الثاني للدولة الوطنية في أوروبا التي لا يوحدها شيء هذه اللحظة بقدر ما يوحدها الوقوع تحت طائلة الإرهاب!

صار العالم متداخلا بشكل لا يمكن ضبطه، ولم يعد الحديث عن نقاء ديني أو عرقي واردًا في أي من الدول الغربية. مسلمو فرنسا يتجاوزون الخمسة ملايين، ألمانيا نحو ثمانية، وتتفاوت الأرقام في الدول الأوروبية الأخرى، لذلك فإن إيقاف العمل بتأشيرة الشينجن لن يحل المشكلة، وصيحة أولوند بالحرب ضد الإرهاب هذا الصباح، هي صيحة دونكي شوتية تنطوي على عدم فهم ربما، لكن غالبًا تنطوي على حالة إنكار لحقيقة  اللحظة التي يعيشها العالم الآن. ولننظر إلى رد الفعل على الهجوم الإرهابي سداسي الأبعاد الذي حدث بالأمس: اعتداء متطرفين فرنسيين على معسكر للاجئين. وغني القول بالطبع أن هؤلاء اللاجئين وصلوا فرنسا هربًا من داعش، أي أن الانتقام جرى من ضحايا مماثلين لضحايا المسرح، وفي ذات الوقت فإن صفوف داعش في الشرق الأوسط تضم مواطنين فرنسيين وانجليز وألمان.

والأهم من كل هذا، أن الرد جاء من قوى غير قوة الدولة المنظمة، التي اتخذت إجراءات احترازية مشددة، لكنها لا تعني إلا وضع فرنسا وأوروبا تحت حالة من الدفاع عن النفس ضد شبح لا تعرفه. بينما اتخذ المتطرفون الفرنسيون الخطوة وحددوا بثقة عدوهم مثلهم مثل الدواعش الذين أثاروا رعب فرنسا.

العدوان ينتمي إلى ما قبل الدولة، والرد كذلك. وهذه هي اللحظة التي يعيشها العالم حقيقة: لحظة تداعي الدولة الوطنية وتراجعها أمام العنف العابر للحدود، تستوي في ذلك الديكتاتوريات الهشة والديمقراطيات الصلبة. وهذا هو التراجع الثاني بعد التراجع لصالح السلعة والشركات العابرة للحدود.

ولأن الحكومات صارت أضعف من كارتيلات المال فإن الحادث سيبرد وسيتم نسيانه كحادث شارل ابدو وحوادث الذبح في بريطانيا، وسيتم الضغط على ديكتاتوريات الشرق الأوسط لقبول “إسلام أكثر انفتاحًا” وهذا الأكثر انفتاحًا بوسعه أن يلد فصائل أخرى من المحاربين “الجبناء” لكن الجبن الحقيقي والخسة الحقيقية هي مشاركة الغرب في توفير المناخات الملائمة لاستمرار الإرهاب في الشرق الأوسط.