كيف أصبح إعلامنا عاهرًا إلى هذا الحد؟ 2

 

المسافة بين النظام وشخص الرئيس كانت العامل الحاسم في تحديد مستوى حرية التعبير في القنوات المصرية التي ساهمت في صنع خريف الغضب، لكنها ساهمت من جهة أخرى في تضليل الرأي العام ودست عليه أبطالاً وهميين صنعوا صورتهم من الخلاف بين النظام وبيت الرئاسة؛ فكان بعضهم يجتريء على السيدة وابنها استنادًا إلى قوة النظام، وكان البعض يستند على المرأة وابنها ويتصيد أفرادًا من النظام

لم يعد بالإمكان القيام بثورة من دون تليفزيون. مثلما لم يعد من الممكن تقويض ثورة من غير الدعم التليفزيوني.

هذه الظاهرة الجديدة على التاريخ باتت واضحة في ثورات أوروبا الشرقية. كانت للصورة التليفزيونية حصتها الكبيرة في قيام الثورات في تلك البلدان.  وسرعان ما ساهمت الصورة في الالتفاف على الثورات وجعلتها تتخبط لأكثر من عشرين عامًا توالت فيها حكومات فاسدة.

الحصة التليفزيونية موجودة في ثورات الربيع العربي أيضًا، وإن تميزت ثوراتنا بوسائل الاتصال الفردية الجديدة الأكثر حرية، لكن هذه الوسائل وجدت نفسها في لحظة من اللحظات بحاجة إلى التليفزيون مرة أخرى لمنحها انتشارًا أوسع.

الحالة الأوضح في هذا المجال هي الثورة السورية التي مُنع التليفزيون من متابعتها فاعتمد على لقطات الفيديو التي صورها الثوار أنفسهم. ولولا هواتف الشباب السوريين  ما كان للتليفزيون من حيلة وبنفس الكيفية يمكن القول إنه لولا التليفزيون ما كانت مذابح النظام لترى النور على هذا النطاق العالمي الواسع طوال العام الأول من الثورة على الأقل، قبل أن ينجح بعض المراسلين الأجانب في اختراق الستار المضروب على هذا البلد بمخاطرات أودت بحياة بعضهم.

لم تزل الثورة السورية في حالة الاشتباك الساخن بما يعني أن الحالة التليفزيونية لم تزل  في خندق الثورة أكثر مما هي في خندق النظام، وذات يوم ستنجح الثورة، وسينقلب التليفزيون من أداة لبنائها إلى أداة للتقويض، ربما ليس بالدرجة التي يمارسها التليفزيون ضد الثورة المصرية الآن.

***

بداية، فإن ما أعنيه هنا هو القنوات الخاصة وليس التليفزيون الرسمي الفاقد للمصداقية.

و القنوات الخاصة في الحالتين يملكها رجال أعمال حلفاء للنظام بل وشركاء ماليون معه، لكن هناك اختلافات أساسية في دور التليفزيون في البلدين تستند إلى مجموعة عوامل أهمها حجم كل من البلدين وطبيعة النظام فيهما؛ فحجم الاستثمارات المصرية أكبر بما يتيح التمويل الكافي لعديد من القنوات، والنظام المصري أقوى وأكثر مرونة وأكثر قدرة على الالتفاف من النظام السوري، لأنه نظام قائم على مؤسسات عريقة التكوين وأهمها الجيش، والمستفيدون من هذه المؤسسات لا ينتمون إلى حزب عقائدي يمكن محاصرته أو إلى طائفة يمكن عزلها.

ومثلما كانت ضخامة الأموال المصرية كفيلة بإطلاق العديد من الفضائيات والاستمرار في تمويلها، أتاحت مرونة  النظام المصري للقنوات المصرية مستويات ضخمة من النقد أكسبتها مصداقية. كان كل شيء مباحًا حتى انتقاد الرئيس وأسرته في وقائع محددة، من دون الطعن في أساس “النظام” أو القول بفساده الكامل. وسرعان ما تحولت القنوات إلى مشروعات ربحية، علاوة على الحصانة التي تمنحها لأصحابها، بينما كانت القنوات السورية ضعيفة اقتصاديًا ومحدودة الحركة، إذ لم يكن مسموحًا لقناة خاصة أن تستمر من دون أن تتطابق في الرؤية مع التليفزيون الرسمي، كما أنه من غير المسموح أن يحصل أي مستثمر على أية حصانة من أي نوع غير ما يسبغه النظام على أتباعه حصرًا. وهكذا لم تستمر قناة إلا بتطابق رسالتها  مع رسالة التليفزيون الرسمي.

***

في الثورة المصرية لم يحاول جندي أن يرغم ثائرًا على ترديد: “لا إله إلا مبارك” لأن رأس النظام في مصر ليس هو كل النظام، بل مجرد واحد من الجماعة، ليس بأفضل عناصرها، لكن تم التراضي عليه لرعاية مصالح الجماعة ويمكن التضحية به إذا عمل لحسابه الشخصي.

وقبل الثورة بسنوات ست على الأقل، بدا الاختلاف واضحًا بين النظام وبين الرئيس الذي كان بصدد كسر النظام بطرح  مشروع توريث ابنه. وكانت مصر كلها تعرف أنه مرغم على ذلك ولكنه لم يتمكن من مقاومة تسلط زوجته التي لم تقدر ما يعرفه هو عن طبيعة النظام الذي يمثله وعن حجمه الذاتي داخل هذا النظام.

وهذه المسافة بين النظام وشخص الرئيس كانت العامل الحاسم في تحديد مستوى حرية التعبير في القنوات المصرية التي ساهمت في صنع خريف الغضب، لكنها ساهمت من جهة أخرى في تضليل الرأي العام ودست عليه أبطالاً وهميين صنعوا صورتهم من الخلاف بين النظام وبيت الرئاسة؛ فكان بعضهم يجتريء على السيدة وابنها استنادًا إلى قوة النظام، وكان البعض يستند على المرأة وابنها ويتصيد أفرادًا من النظام، واحدًا بعد الآخر.

وحددت هذه القسمة نجوم القنوات بمرتبات خيالية لا يتقاضهاها مقدمو البرامج في الإعلام المهني بالدول الكبرى. وقد ظل مفكرو الفضائيات نجومًا وقادة رأي، وظل الجناحان متفاهمان ومكشوفان لبعضهما البعض كحال عملاء مخابرات الدول المتحاربة في كازينو بدولة محايدة. كان القانون غير المكتوب هو التعايش السلمي الذي يحفظ الصورة اللامعة لهؤلاء النجوم لدى العامة.

ولا مكان للمعارض الجذري في هذه المنظومة، أي لا منصة دائمة له، بينما تمكن استضافته على فترات متباعدة جدًا بحيث تضيع رسالته وسط طوفان الرسائل الجزئية المحسوبة. وقد يتعرض للاختطاف والضرب ثم يُلقى به عاريًا في الصحراء، مثلما حدث للدكتور عبدالوهاب المسيري أو للكاتب الصحفي عبدالحليم قنديل، بينما يواصل النجوم رفع أصواتهم ربما أعلى من صوت الجذري الذي تعرض للضرب.

ومن هذه الرسائل المحسوبة كان التنديد المطلق بالكوارث التي تقع، ومطالبة بمحاكمة المهملين من دون القول بانهيار مرافق الدولة التي تحولت إلى ملكية فردية، ومن تلك الحوادث التي كانت كفيلة بقلب نظام الحكم،  حوادث قطارات راح ضحية إحداها ثلاثة آلاف مواطن أو حوادث غرق سفن نقل الحجاج التي راح في إحداها ألف وأربعة عشر مواطنًا، بخلاف موت الشباب في زوارق الهروب إلى إيطاليا.

***

منذ بداية 2010صار واضحًا استحالة استمرار الأمور على هذا النحو، وراج على ألسن مفكري الفضائيات مصطلح “النواة الصلبة للدولة” إشارة إلى الجيش وجهاز المخابرات العامة. ارتفع صوت رجال المؤسسة على صوت رجال الأسرة.

وكانت هناك دعوات علنية لكي تمتد ذراع الجيش لتطهير البلاد، لكن هذه الذراع لم تمتد وانتظرت الثورة لتفعل ذلك، ولم تتعاطف معها إلا بوصفها الطريقة المناسبة لبتر العضو الجانح مبارك.

ولأن الثورة ليست مزاحًا؛ كان على جناح خدم الأسرة بالذات أن يثبتوا الولاء الكامل. وأسفر هؤلاء النجوم عن وجوههم الحقيقية. تم التحريض علنًا على الثوار، وتمت عمليات حرب دعائية قذرة حيث استمع المشاهدون إلى صراخ نسوة من البلطجية بوصفها اتصالات هاتفية من أحياء قاهرية مختلفة، لكنها كانت تصدر من غرفة ملحقة بالاستديو.

جناح “النواة الصلبة للدولة” ظل على حاله بكامل ألق صورته، في جانب الثورة. وكان من المنتظر لو استمرت النواة الصلبة مع أهداف الثورة أن يتم التخلص من خدم الأسرة وبعضهم يمكن إدانته جنائيًا بالتحريض على قتل الثوار، لكن ذلك لم يحدث، لأن النواة الصلبة ستحتاج إلى الجميع مجددًا.

ولذلك عاد خدم الأسرة بعد اختفاء قصير استغله بعضهم في التنحيف وإعادة اللياقة إلى صورته. وكان من المفترض أن تقل المرتبات فزادت أو تغلق بعض القنوات فتم افتتاح قنوات جديدة عديدة بأموال مجهولة المصدر.

وقد وصل الصدام مؤخرًا بين “النواة الصلبة” والشعب إلى ذروته، وقد أكدت الوقائع أن الثورة القادمة ستكون الأصعب، فالعضو الجانح تم بتره والكتيبة التليفزيونية موحدة الآن خلف النواة الصلبة، تبث رسائلها الملغومة التي تحتاج إلى تحليل خطاب لا تتسع له المساحة اليوم.