كيف أصبح إعلامنا عاهرًا إلى هذا الحد؟ 1

وافق حسني مبارك على موعد مع صحافي حدده مدير مكتبه للمعلومات مصطفى الفقي. وتمت المقابلة ونسي مبارك أمرها حتى وضعوا أمامه جريدة “الحياة” وكان سعيدًا بالمقابلة المكثفة التي تقدمه في صورة شديدة الإيجابية. ولفت نظره أن توقيع الصحفي الذي أجرى المقابلة ببنط عشرة (البنط الصغير المستخدم في كتابة المتن) وعندها سأل عن وظيفة جهاد الخازن في الصحيفة؛ فقالوا له إنه رئيس تحريرها، فتناول مبارك أم رئيس تحرير أهم صحيفة مصرية بالخير، لأن رئيس التحرير ذاك يوقع على مواده التافهة ببنط العناوين (وصفه مبارك بـ “قد فردة الجزمة”)!

وفي مرة أخرى صرخ في وجه رئيس تحرير جريدة “الأخبار” وقال له: هذه هي الأحبار، لا الأخبار. وكانت هذه واحدة من عبارات الرئيس البليغة النادرة. كان مبارك قد بدأ منذ أوائل التسعينيات يدرك تدهور شعبيته ويلقي باللوم على المستوى المتدني الذي وصل إليه الإعلام المصري، متجاهلاً أن هذا الإعلام ليس سوى صدى انهيار مصر بعد عقد ونصف من الجمود تحت إدارته، وثمرة الانفصال التام عن الواقع، حيث صار الإعلام مجرد منظومة مغلقة من اللغة الإنشائية الفارغة التي لا تسندها إنجازات على الأرض.

وكان حال التليفزيون أسوأ من حال الصحافة؛ فالتليفزيون الذي انطلقت قناته الأولى عام 1960 صار الأسوأ عربيًا، والبرج الضخم الذي يحتله على النيل مثقل بثلاثين ألف موظف ومئات المديرين الذين يمنحون أنفسهم مكافآت ضخمة، ولم يعد يشاهده أحد.

***

المنافسة مع الصحف العربية كانت محكومة بقرار من السلطات، لأن قانون الرقابة على المطبوعات الأجنبية يقنن دخول الصحف والمجلات ويمنع ما يراه خطرًا على الحكم فمنعت صحيفة “القدس العربي” المناوئة، بينما تكفلت ذائقة القاريء المصري التي تميل إلى المحلية بتحجيم انتشار الصحيفتين العربيتين الأخريين: “الحياة” و”الشرق الأوسط” اللتين لا تعطيان الصدارة للشأن المصري.

وكان الأمر مختلفًا في حالة التليفزيون، فلا قانون مطبوعات يستطيع أن يمنع موجات الأثير. وجاء مولد قناة الجزيرة عام 1996 بمثابة الكابوس بالنسبة لحسني مبارك. وكان دائمًا ما يحملها مسئولية القلاقل التي بدأت تواجه حكمه.

بالطبع لا يوجد إعلام يقوم على نظام الجمعيات الخيرية، بل إن هذه الجمعيات ذاتها لا تمنح أموالها من دون أغراض.

كل إعلام له أجندته وأهدافه، ولكن إعلام العالم كله لا يستطيع قلب نظام الحكم في إمارة موناكو. وهذا ما لم يدركه مبارك ولم يدركه صفوت الشريف، وزير إعلامه المزمن، الذي كان يتغنى بالريادة المصرية غير الموجودة، وعندما أراد المنافسة توجه إلى شراء قمرين صناعيين عام 1998، متباهيًا بريادة مصر، دون أن ينتبه إلى أن مصر اشترت قمرًا لم تنتجه ولم ينطلق من أرضها، بل من جنوب فرنسا، ولم ينتبه إلى أن القنوات العملاقة بما فيها “الجزيرة” التي تؤرقهم لا تمتلك قمرها الخاص، وإنما تستأجر الترددات.

وللمفارقة؛ ففي التوقيت ذاته كانت محطات الدراما السعودية تشتري تراث السينما المصرية من الأفلام، حتى لم تعد دولة الريادة الإعلامية الكاذبة تتحكم في ريادتها السينمائية الحقيقية، وكانت المافيا من داخل النظام تتاجر في الآثار المصرية.

كان النظام يبدد من التاريخ بقدر ما يبدد من إمكانات الماضي والمستقبل. وقد وجدت الصحافة المسكن لآلامها في الصحف المستقلة، ابتداء من عام 1995 وهو تاريخ انطلاق جريدة “الدستور” الصحيفة الأشهر بين موجة الصحف التي صدرت بتراخيص من قبرص، وكانت تعتبر مخالفة قانونيًا، ومن الممكن إغلاقها في أي وقت، وهو ما حدث فعلاً بعد ثلاث سنوات بسبب نشرها بيان لجماعة سلفية تهدد باستهداف استثمارات الأقباط، لتعاود الصدور عام 2005.

بعد سنوات من غض الطرف عن الظاهرة القبرصية كبيرها وصغيرها سمحت السلطات بالصحف التي تقوم على مستثمرين رئيسسيين طبقًا لنظام الشركات ولكن مخالفة لقانون سلطة الصحافة التعجيزي الذي وضعه السادات عام رحيله، حيث  يشترط ذلك القانون ألا تزيد مساهمة الأسرة في رأسمال الصحيفة عن خمسمائة جنيه مصري.

ومن التجارب المؤثرة في هذا النوع من الصحف جاءت تجربة “المصري اليوم” عام 2004 بمستثمر رئيسي هو توفيق دياب وحصة متميزة للمستثمر نجيب ساويرس، ثم كانت جريدة “اليوم السابع” عام 2008 ومستثمرها الرئيسي وليد مصطفى. علمًا بأن عدم الشفافية يكتنف عمل الصحافة الخاصة، فهذه الأخيرة يتردد أن صاحبها الأساسي هو أشرف صفوت الشريف بعد أن طاردتها أيام التأسيس شائعة تبعيتها لممدوح إسماعيل المستثمر الذي كان هاربًا في لندن عقب غرق العبارة السلام المملوكة له.

***

خلق العدد الكبير من الصحف خليطًا مربكًا من الرسائل الإعلامية التي صارت مثل ضجة القطار.

فتت هذا الإغراق كتلة القراء بين العديد من الصحف، وباتت كل رسالة مهما كانت خطورتها توزع في عدد محدود، وتجد من ينفيها في مطبوعات أخرى. وظل التليفزيون جرحًا مفتوحًا؛ فلم تمثل الفضائيات التي أطلقت على القمر التمليك سوى إضافات كمية للقنوات الحكومية الأرضية البليدة، وفي العام 2001 تم إطلاق قناتي “دريم” اللتين حملتا الاسم ذاته للمشروع العقاري للمستثمر أحمد بهجت، ثم توالت القنوات وأهمها “أون تي في” لنجيب ساويرس و”المحور” لحسن راتب ثم “الحياة” للسيد البدوي رئيس حزب الوفد. وكل هؤلاء المستثمرين ظهروا فجأة باستثناء نجيب ساويرس الذي كان لأسرته نشاط قديم ومستمر في إدارة استثمارات صغيرة.

لم تعالج الصحافة الخاصة ولا القنوات الخاصة خلل العدالة الرهيب الموجود داخل المؤسسات الإعلامية المملوكة للدولة. ظل الفارق شاسعًا بين رئيس التحرير والمحررين الذين يعدون الوجبة، وظل التقتير نفسه في الإنفاق على العمل المهني. النموذج الأبرز على ذلك هو جريدة “الدستور” في إصدارها الثاني، حيث كان إبراهيم عيسى رئيس تحريرها يتقاضى ثلاثين ألف جنيه شهريًا مع حصة من أسهم الجريدة بينما يتقاضى المحرر تحت التمرين مائة وخمسين جنيهًا ترتفع إلى مئتين وخمسين، مع تحديد آلي لزمن المكالمة التليفونية بثلاث دقائق، تضع المحررين في حرج مع مصادرهم عندما يتكرر انقطاع المكالمة، ولا مجال مع هذا للحديث عن سيارات تقوم بتوصيل المحررين إلى مصادرهم أو تسهيلات من أي نوع.

وكذلك كان حال التفاوت بين مقدمي البرامج وجيوش المعدين في القنوات التليفزيونية، وسواء تطابقت ملكية القناة والصحيفة لذات المستثمرين أو اختلفت، تعيش الفضائيات عالة على الصحف الخاصة. رؤساء التحرير يتصدرون شاشاتها بمكافآت ضخمة، أو يحملون صفة مستشار، وهي صفة يحملها صحافيو وإعلاميو الحكومة لدى وزارات لا تستشيرهم في شيء، حيث الاستشارة هي اللفظ المهذب لشراء الصحافي، وضمان تواجد صورة الوزير.

المقدمون المستشارون في قناة هم أنفسهم مع مجموعة محددة من الأسماء هم ضيوف قناة أخرى، أي مجتمع “القلة التي تعرف بعضها بعضًا” كما يقول بيير بورديو. يبدأون يومهم بعد الظهيرة في الصحف ثم الحلقة التليفزيونية في المساء وينتهون في سهرة مشتركة بأحد فندقين متواجهين على النيل: الفور سيزون وشيراتون الجزيرة، وأصبح إطلاق اسم أحدهم على مائدة محددة علامة تميز بين الصحاب.

لم تنفق القنوات المصرية الخاصة الكثير من الأموال على إعداد المواد والتحقيقات المتميزة وليس لها شبكات مراسلين، وإنما يتلخص وجودها في برامج “التوك شو” في دوران عجيب للمادة الإعلامية.

التداخل المالي والمهني لكل قناة مع صحيفة جعل الأخبار والتحقيقات المنشورة في الصحيفة الصباحية تصبح موضوعًا للحوار في التوك شو المسائي، وتصريحات ضيف مهم (من وجهة نظر هذه القلة المغلقة) في التوك شو المسائي تصبح عناوين بارزة في عدد اليوم التالي من الصحيفة.

القناة التليفزيونية ترسخ وجود الصحيفة من خلال التنويه بها، وبالأحرى، تنويه رئيس التحرير (المقدم) وتنويه المحرر (المعد) بنفسيهما، والعكس صحيح كذلك، إذ يعرف قاريء الجريدة الذي نام مبكرًا أن هذا النجم “المالتي ميديا” قابل في المساء كاتبًا كبيرًا أو وزيرًا مخيفًا!

على أن العيوب المهنية التي تسببها قلة مصادر المعلومات أو ترتيب الأولويات طبقًا لمصالح فريق العمل، هي أقل أنواع التزييف سوءًا إذا قورنت بمصالح أصحاب رأس المال أو توجيهات النظام بأجنحته السياسية والأمنية، وهذا النوع من التدخلات يبدأ بفرض مقدمين وضيوف محددين ولا ينتهي بالإعلان عن قضايا حقيقية، مثل قضايا التجسس في توقيتات تحقق حجب قضايا أخرى أكثر خطورة.