ممر آمن للشعوب الأسيرة

ابتلعتنا تفاصيل الكر والفر في حرب داعش والغبراء، ولم تعد الحقائق البسيطة قادرة على إثارة دهشتنا، وأهمها وأوضحها أن قطر الكرة الأرضية المدمى يقع في بلاد الإسلام، وأن الحرب على جانبي هذا الخط المجنون يقودها عادة طرف إسلامي ضد طرف آخر، وفي النادر قد يكون هناك طرف غير مسلم، لكن الإسلام موجود في الطرف الثاني كحد أدنى!
من أفغانستان إلى مالي؛ يمتد خط القتل، مؤكدًا أن صناعة القتل صارت صناعة إسلامية حصرية، تتركز أساسًا في بلاد الربيع العربي.
ليجزع من يجزع، وليصرخ من شاء: “هذا ليس الإسلام” ولن يغير هذا الاستدراك من حقيقة أن القتل مركز بكامله في بلاد إسلامية، وأنه الصناعة الوحيدة التي يجيدها المسلمون الآن.
لم يأمر الإسلام بالقتل، لكن القتل استوطن بلادنا، ولم يعد يثير دهشتنا أن طرطشات الدم المسفوك “هنا” لم تعد تصل إلى الغرب، مثلما كان يحدث في موجات الإرهاب الأولى.
كيف صارت قطارات مدريد ومترو لندن وأبراج نيويورك وسفارات الولايات المتحدة بمنأى عن هذا الجنون؟
بالطبع، لا ينطوي السؤال على رغبة في إراقة دماء أي إنسان، بل فقط لتأمل الآلية التي هاجر بها الإرهاب من الشمال إلى الجنوب، متخليًا عن المواجهة التقليدية مع “الغرب الكافر” التي كانت شعار الجماعات الإسلامية المتطرفة عقب سقوط الشيوعية فيما بدا انفراطًا للتحالف مع الغرب الذي رباها وأطعمها وسلحها مباشرة أو عبر وكلائه المحليين.
كيف جرى هذا التطويع للإرهاب ومن الذي تمكن من تغيير اتجاهه بهذه السهولة بحيث يصب كله في بلاد العرب ويأتي على نبتة الحرية التي بزغت في ديسمبر 2010 بثورة تونس؟
كان المنطق السليم ـ لو كان عند الوحوش المحاربة من منطق ـ يقتضي أن تكون المواجهة مع الغرب، والولايات المتحدة تحديدًا، انتقامًا لأسامة بن لادن الذي قتله الأمريكيون في 2 مايو 2011 بعد أشهر قليلة من بدء الربيع العربي.
كان قتل زعيم القاعدة المتقاعد بتلك القسوة، وبكل ما صاحب القتل من غموض مصير الجثة، دعوة أمريكية للإرهاب كي ينشط، وكان من المنطقي أن يكون القصاص من الفاعل كما توعدت ردود الفعل الأولى التي صدرت عن القاعدة، لكن ذلك لم يكن!
ما دور الولايات المتحدة وما دور حلفائها الإقليميين في هذا التحويل الرغائبي الفكري الذي قلب دفة سفينة الإرهاب وجعلها تبحر في الاتجاه المعاكس وتصوب سلاحها إلى صدور العراقيين واليمنيين والسوريين والمصريين واللبنانيين؟ وكيف تعاونت الأنظمة الساقطة مع الأنظمة التي لم تسقط بعد على استبدال الكابوس بالحلم؟
ما الذي أخرج كل قوى التخلف ووضع في أيديها كل هذا السلاح لتقف به في وجه ثورات إنسانية تحلم بالمساواة والعدالة، تثق في نفسها باعتدال لا يحط من قدر الذات ولا يضعها فوق الآخرين؟!
كيف أفضى صندوق الانتخابات إلى حكم العشيرة والطائفة ثم حرب العشيرة والطائفة؟ كيف ومتى انفتحت الحدود لتعبر القاعدة من العراق إلى سورية وبالعكس، وكيف يكون الطريق إلى نصرة القدس عبر القتل في المنصورة، المدينة التي أسرت ملك فرنسا قائد الحرب الصليبية لويس التاسع؟!
كيف تحولت منطقتنا إلى ثقب أسود كبير ومكب لتجميع كل نفايات القسوة في العالم؟!
لم يعد القتلة حسب الشرع والشريعة والشرعية يكلفون أنفسهم عناء تزيين خطابهم ببعض الجمل الإنشائية ضد الغرب الكافر، مثلما كانوا يفعلون سابقًا، من باب التعمية على الأقل.
سلاح الغرب الكافر مقبول في أيدي الأطراف كلها، وتقنيات الاتصال الغربية هي وسائل نقل أساليب الترويع، وبينها المباريات التي تستخدم فيها رءوس البشر بديلاً لكرة القدم؟!
هي الحرب فحسب، ولم يعد لدى القتلة أي اهتمام برأي الجمهور فيهم، لم يعودوا بحاجة إلى كسب قلوب الضعفاء الذين حلموا يومًا بالحرية فوجدوا أنفسهم أسرى في حرب بين حلفاء أقرب إلى بعضهم البعض.
لم يعد أمام الناجين من الموت العشوائي سوى الغرق في متابعة التفاصيل الدقيقة لمباريات داعش والغبراء. وللحق؛ فإن الأطراف المتبارية لم تغلق طريق التوبة. هناك ممر آمن للشعوب الأسيرة يُفضي إلى حدود ما قبل 17 ديسمبر 2010، أي ما قبل إحراق محمد البوعزيزي لنفسه.