يا إلهي..ما الذي يجعل القتل مبهجًا إلى هذا الحد؟

الرقة من الجو..هل يمكن أن يكون هناك بشر في قرص العسل هذا؟!
الرقة من الجو..هل يمكن أن يكون هناك بشر في قرص العسل هذا؟!

 

الذي يتابع أخبار الغارات الروسية والفرنسية على سورية لن تخفى عليه نبرة البهجة التي يقرأ بها المذيعون النشرة. القنوات زفت للمشاهدين في كل مكان أنباء التنسيق بين روسيا وفرنسا في الغارات على “الرقة” المدينة التي كانت معروفة بالكاتب عبدالسلام العجيلي والمهرجان السنوي شبه المستقل الذي يحمل اسمه، صار ضربها مطلبًا شعبيًا يوحد سكان الكوكب؛ لأن شرير الشاشة يسكن هناك!

لا أحد يعرف مصدر البهجة العالمية بقصف الرقة، هل حبًا في باريس بلد الملائكة التي تسرب إليها القليل من الجن، أم كرهًا في الرقة التي تسكنها أشباح داعش؟ ألم يتبادر إلى ذهن المشاهدين احتمال وجود سوري غير داعشي؟!

نقلت اعتداءات باريس وحشيتها إلى جمهور عريض يتطلع للقصاص من عدو جاهل يسكن ركنًا مظلمًا في العالم يُدعى سورية. لكن الاستهانة بالدم السوري ليست وليدة المحنة الفرنسية. لم يألم العالم لأربع سنوات من القتل في سورية. ولا أعني بـ “العالم” هنا رعاة جنيف واحد وجنيف اثنين أو الحاضرين دردشات فيينا التي حميت على وقع الموت الفرنسي،  ولكن أعني ضمير المواطن العادي الذي كان حيًا حتى غزو العراق تقريبًا.

لماذا لم تشهد لندن، أو نيويورك، منذ أربع سنوات مضت مظاهرات كبرى ضد الموت في سورية كتلك التي شهدتها ضد غزو العراق أو ضد غزو فيتنام من قبل؟

ملايين البشر في الشرق والغرب يكملون وجباتهم أمام نشرات الأخبار، ربما يتناولون الفيشار مثلما يفعلون أمام فيلم سينمائي؛ فما الذي تغير؟

من غير المعقول أن يفسد جوهر الإنسان في سنوات معدودة ويفقد “الضمير” الذي تكون عبر آلاف السنين، لكن ربما يمكننا الحديث عن تدهور وعي الإنسان بالعالم نتيجة للطريقة التي يستقبل بها الأحداث.

من حرب فيتنام، إلى ربيع براغ، إلى ثورات أوروبا الشرقية، كانت الغلبة لم تزل للفوتوغرافيا، حيث يكون بمقدور الإنسان لمس لحظة الموت في الملمس الخشن لصفحات الصحف. وكانت الصورة تحدق طويلاً، ساكنة وصامتة تستصرخ الضمير. كان المحدق في الفوتوغرافيا يجلس أمام الصورة بحزن قابيل، يرى نفسه مسئولاً بشكل ما عن عار القتل.

ومع حرب الخليج الثانية بدأ عصر الموت المنقول على الهواء مباشرة، لكن القنوات الفضائية كانت تعد على أصابع اليد. ثم شاء حظ الربيع العربي العاثر أن يتفجر في وقت الهزيمة المبرمة للورق أمام القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية التي تكاثرت كالفطر.

تقهقر الموت الملموس الذي كان يحدق في القاريء لصالح الموت السيّال، موت يجري على الشاشة ويختفي بلا ألم مثلما تجري الحياة. مشاهد التليفزيون ومتصفح الموقع الإلكتروني لا ينزل إلى نهر الدم الواحد مرتين.  تصطفي الفضائيات لحظة وتتخذ منها أيقونة، وقبل أن تجمع حولها المؤمنين تكون أيقونة أخرى قد جاءت وحلت محل الأولى. الأسوأ أن نشرات الأخبار جعلت المشاهد جزءًا من اللعبة، تعرض الصور الملتقطة من الجو؛ فتبدو بنايات المدينة مثل بيوت النحل في قرص العسل، لا وجه بشري يظهر في هذه المخططات الصغيرة، وتنشأ الإثارة من توقع الجمهور لدقة التصويب، ويُصبح القتل فُرجة مسلية، إن لم تكن مبهجة!

والأفظع حقيقة في تحويل الحرب إلى لعبة إلكترونية هو أن الجمهور لا يتصور إمكانية انتهائها، تمامًا كألعاب الفيديو التي يمكن إعادة أدوارها على الدوام بلا كلل.