حكمة هيراقليطس “لا ننزل إلى النهر الواحد مرتين” تنطبق على الكتب؛ فنحن عندما نعيد قراءة كتاب لايكون هو ذاته الذي قرأناه أول مرة. الفرق أن النهر هو الذي يتغير، السابح فيه بعد لحظة يسبح في مياه جديدة، في الكتب الأمر مختلف. النص ثابت، نحن الذين نتغير؛ تتغير درجة الوعي التي اكتسبناها من مصادر أخرى بين قراءة وقراءة، وتتغير الظروف.
وعندما قرأت “يوميات الواحات” للمبدع نزيه الروح صنع الله إبراهيم في طبعتها الأولى عام 2005، شغلتني محاور ترتكز عليها اليوميات: التكوين السياسي والأدبي للكاتب نفسه، حركة الانشقاقات والاندماجات بين التنظيمات الشيوعية، وعلاقتها الملتبسة بعبدالناصر. لا أذكر أن القراءة خربت علاقتي مع نفسي والعالم وأسقطتني في حالة القنوط التي وجدتني فيها هذا الأسبوع، بعد قراءة الطبعة الثانية من المذكرات نفسها.
صنع الله هو نفسه الولد الذي بدأ السياسة تلميذًا، ومعها تردده على أقسام الشرطة مع الأصدقاء أنفسهم الذين يلتقي بهم في كل حبسة بعد أن يتقدموا في العمر مرة بعد مرة، بعض الأشياء المثيرة للإعجاب كمحاضرات التثقيف وتعلم اللغات، بعض الأشياء المبهجة كأن تصدح فجأة موسيقى بيزيه، حتى حفل التعذيب المرعب في معتقل أبي زعبل الذي راح ضحيته المناضل شهدي عطية كان موجودًا في هذا الكتاب منذ البداية. لكن يبدو أن القراءة في 2005 كانت أكثر وعدًا من اليوم، أو ربما كانت الشرطة أكثر رحمة، أو ربما كنت أقل وعيًا أو أقل حساسية تجاه العالم، أو أقل خوفًا على مصر، ربما!
بدلاً من الانتباه إلى محاولات صنع الله الأولى في الكتابة، وآرائه في الكثير من الكتب، عملقت في قراءتي اليوم حفلة التعذيب عام 1960، التي لا تمت إلى البشرية إلا بدقة التنظيم: “أمرونا نحن الأربعة بأن نجلس القرفصاء في جانب ونضع رؤوسنا في الأرض ففعلنا، ثم أمرونا أن نرفع رؤوسنا بحيث نرى ما يجري لزملائنا. ونتابع هؤلاء أمامنا: يُجردون من ملابسهم وهم يُضربون ويترنحون عرايا وهم يلهثون ويُغمى عليهم فيُغمسون في مياه ترعة صغيرة ويُداسون بالأقدام”. المفارقة أن هذا التعذيب يأتي بعد مرافعة شهدي عطية في محاكمة أكد فيها التنظيم تأييده لعبدالناصر. و لا ينم المستوى الموصوف من التعذيب، عن علاقة بين متهم وشرطي يؤدي وظيفة؛ فالتفنن الفائق لحدود الإنسانية يعني حالة من الهوس النفسي تجعل الشرطي ينظر إلى المتهم باعتباره عدوًا شخصيًا. وأما الرعب فيتجلى في تلك السادية الجماعية التي يصفها صنع الله عرضًا، حيث شهد عدد ضخم من كبار الضباط حفل التعذيب كما لو كانوا مشاهدين في مسرح تعذيب روماني قديم.
انتبهت في القراءة الجديدة كذلك إلى مفارقات من قبيل أن الصول الذي تولى تدريب صنع الله ذات يوم على المقاومة الشعبية صار سجانه، ضابط يشهد حفل التعذيب الناصري يصبح وزير داخلية في عهد السادات، وآخر يصبح أمينًا للاتحاد الاشتراكي، الفريق الذي تولى محاكمة المعتقلين في 1960 يخرج من الخدمة عام 1967 بوصفه أحد المسئولين عن الهزيمة.
مقتل الأمن والسياسة معًا كان الخلط الحاصل بينهما، هكذا فقد رجل الأمن احترافيته وفقد السياسي شرفه، وبقينا بقينا في النقطة ذاتها، حيث تنزل أجيال من المعتقلين إلى نهر واحد لا يتغير، وحيث يُعاملون بوصفهم أعداء للوطن الذي في ذهن الشرطي وحده.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في “المصري اليوم”