الرجل الذي هتف تيريزا..على هذه القصة جلست وبكيت

Edward Hopper
Edward Hopper

ذات يوم بعيد، في القطار المتجه من روما إلى نابولي، كانت جمل هذه القصة تتقافز في انجليزية رقيقة من بين شفتين جميلتين لتستقر في أذني. كنت مسترخيًا على كتف القارئة، وعيناي سارحتان في الهضاب الخضراء والأشجار التي تصطف كعادتها منذ الصباح الباكر كل يوم لإسعاد ركاب القطارات. وجملة بعد جملة اعتدلت في جلستي، ومع نهاية القصة سالت دموعي. وحتى الآن لست واثقًا من سبب بكائي. هل هو الحسد لكالفينو، الذي شرع مبكرًا جدًا في تنفيذ وصاياه الأخيرة بالخفة والسرعة والعمق؟ هل هو جيشان المشاعر لأن القصة أكملت بهجة الخضرة المسافرة مع الوجه الحسن؟ هل حزنًا على فراق آت؟ هل كل ذلك معًا؟ المهم أنني لن أنسى ما حييت تينك الشفتين ولا تلك القصة التي وجدتها منشورة بالعربية أخيرًا.

إيتالو كالفينو

ترجمة: عائشة أحمد

نزلت من على الرصيف، مشيت صوب الخلف بضع خطوات وأنا أنظر إلى الأعلى. وعند وسط الطريق، رفعت يدي وأحطت بهما فمي على هيئة بوق، وهتفت باتجاه الأدوار العلوية للبناية: “تيريزا!”

فزع ظلّي من القمر، وجثم عند قدمي.

مرّ بي رجلٌ. هتفتُ مرّة أخرى: “تيريزا!”. أتى الرجل نحوي وقال: “إذا لم تهتف بصوت أعلى فلن تسمعك. دعنا نحاول نحن الاثنين. لنعدّ إلى الثلاثة، وبعد الرقم ثلاثة نهتف معاً”. قال: “واحد، اثنان، ثلاثة”. وصحنا معاً: “تيريييييييييزا!”.

مرّت بنا مجموعة صغيرة من الأصدقاء، في طريق عودتها من المسرح أو المقهى، ورأتنا ننادي تيريزا. قالوا: “هيا، سنساعدكم في الهتاف”. وانضموا إلينا عند منتصف الطريق، وعدّ الرجل الأوّل من واحد حتى ثلاثة، فهتف الجميع معاً: “تيـ ــ رييــ ــ زااا!”

جاء شخص آخر، وانضمّ إلينا. بعد مرور ربع ساعة، شكّلنا مجموعة تقارب العشرين شخصًا. بين الفينة والأخرى كان يلتحق بنا شخص جديد.

لم يكن من السهل تنظيم أنفسنا لإطلاق صيحة جيدة في الوقت نفسه. فقد كان دائمًا، أحد ما يبدأ بالهتاف قبل إتمام العدّ إلى الرقم ثلاثة، أو كان آخر يذهب في الهتاف بعيداً. لكننا في النهاية تمكّنا من القيام بشيء فعّال.

اتفقنا على أن يكون حرف الـ”تاء” منخفضًا وممتدًا، وحرف الـ”راء” عاليًا وطويلًا. أمّا حرف الـ”زاي” فمنخفضًا وقصيرًا.

وبدا الأمر على ما يرام. وبين وقت وآخر محض مشادة حين يخرج أحدهم عن الإيقاع.

كنا قد بدأنا بتنفيذ الهتاف بشكل صحيح، عندما سأل أحدهم، وقد بدا من صوته كما لو أنه وجه مغطى بالنمش: “ولكن هل أنت متأكد أنها في البيت؟”.

“لا”. قلت له.

“هذا سيئ”. قال آخر وأردف: “نسيت مفتاحك، أليس كذلك؟”.

أجبت: “في الواقع، مفتاحي معي”.

سألوا: “إذن، لماذا لا تصعد؟”.

قلت: “أنا لا أقيم هنا، إنني أقطن في الجهة الأخرى من المدينة”.

فقال صاحب الصوت المنمّش: “حسناً، لتعذر فضولي، لكن من يسكن هنا؟”.

“حقيقة، لا أعرف”. قلت.

استاء الآخرون من الأمر.

“هلا شرحت من فضلك”. سأل أحدهم بصوت مكتظّ بالأسنان،” لماذا أنت في الأسفل هنا تنادي تيريزا؟”.

“في ما يتعلّق بي”، قلت: “لا أمانع أن ننادي أي اسم، أو نجرّب مكاناً آخر لو أحببتم”.

ظهر الانزعاج على الآخرين.

“أتمنى أنك لم تكن تتلاعب بنا؟” تساءل ذو النمش بارتياب.

“ماذا؟”. قلت بامتعاض. واستدرت إلى الآخرين كي يؤكدوا حسن نواياي. إلا أن الآخرين لم يقولوا شيئاً.

سادت لحظة حرج.

“اسمعوا”. قال أحدهم بمحيّا طلق، “لماذا لا ننادي تيريزا مرة أخيرة، ثم نذهب إلى منازلنا؟”.

هكذا فعلناها مرة أخيرة. “واحد، اثنان، ثلاثة، تيريزا!”. ولكن الهتاف لم يطلق بطريقة حسنة. وانصرف الناس إلى منازلهم، سالكين هذا الاتجاه أو ذاك.

كنت قد انعطفت نحو الساحة، عندما خيّل إليّ أنني سمعت صوتاً ما زال ينادي: “تيـ ــ رييــ ــ زااا!”.

لا بدّ أن أحدهم قد بقي ليهتف. شخصٌ ما عنيد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* من مجموعة “أرقام في الظلام”.

نشرت في 19 أكتوبر 2015