أنتظرك، ولا تلق بالاً لمسألة الرواية، اكتملت أو تأخرت.
وإذا لم يكن بمقدوري إضافة سطر جديد، ماذا سيحدث للعالم من دون “الحارس” التعيس؟!
أكتب بقوة الشوق، وبقربك أشعر باكتمال لا حاجة لي معه إلى الكتابة. ولن أشعر بالأسف، العيش أفضل ألف مرة من هذه الخدمة التي نتطوع بها من دون أن يطلبها أحد.
سوف لن تتأخري، وسنفعل كل شيء؛ سأطوقك من الخلف بينما نطبخ ما يرد على مخيلتنا، متنكرين لكل تواريخ الطبخ. أواصل الكتابة الآن، لأنه لا سبيل أمامي إلا مشاغلة الشوق بالكتابة، خصوصاً عندما أتلقى منك الاستحسان.
فرحت بملحوظتك حول قسوة الصمت في المعسكر. إن كنت آذيتك فقد نجحت! أنا في هذه المرحلة من الكتابة هش كطفل، رأي سلبي قد يصرفني تماماً عن الرواية. قرأت رسالتك وبدأت الكتابة كمجنون، أكتب كثيراً، صباحاً، مساء، في أي وقت. وبالأمس نمت مبكرا، أي في منتصف الليل على غير عادتي، مستأنفاً الكتابة في منامي. نص واضح وجميل، ككل نصوص الأحلام الهاربة، جعلني أستيقظ قبل طلوع الشمس.
حافظت لعيني على إغماضهما، وبتوازن لاعب سيرك قطعت الخطوات الفاصلة بين السرير والكمبيوتر، لكن نص عمري فر من جديد!
أظلمت ذاكرتي في اللحظة التي أضيئت فيها شاشة الكمبيوتر، عبثا أبحث في ذاكرتي الخالية كسماء هذا الصباح الساكن، عن فصل جديد تصورت أنني كسبته.
لكنني تذكرت أحداثاً أخرى أنجزتها في تلك النومة القلقة (حتى في أحلامنا لا نملك رفاهية التفرغ تماما للكتابة!).
أتذكر الآن أنني في إحدى لحظات الحلم كنت على منصة أتحدث في جمع؛ المهارة التي أحمد الله على أنني لا أمتلكها، لكنني ـ حتى في الحلم ـ لم أكن أتحدث حقيقة، بل كانت الأفكار تنتقل من رأسي إلى رؤوس الحضور بطريقة النسخ من قرص كمبيوتر إلى آخر، كان مربع النسخ البياني واضحاً والملفات تتطاير من رأسي لتستقر في رؤوس الآخرين كما على شاشة كمبيوتر.
في لحظة أخرى رأيت صديقي جورج أبوزيد، وكان مضطجعا بجوار شخص آخر في سكينة لا يدركها المرء إلا في مقيل يمني، كانا بحجمهما الواقعي، لكنهما يطلان من كادر صورة صغير على هيئة شباك وسط صورة أخرى بغلاف مجلة. لم أدقق في تفاصيل الصورة الكبيرة، وكنت أسمع جورج الذي لم أره منذ ثلاثة عشر عاما يحادث جليسه، ولكنني لم أشأ أن ألتحق بهما حتى لا أصافح ذاك الآخر، مرجئاً الثرثرة مع جورج إلى موعدنا المسائي في أحد المطاعم بالقاهرة.
كنت أريد أن أسأله عن نديم ومايا، هل حافظا على هوايتيهما؟ عن زوجته فاديا، كنت أريد أن أقول له إن ابني محمد الذي كان يحمله بين يديه ويساله:”شوها الضحكة الطيبة؟” فيكركر بالضحك أكثر، يخطو الآن صوب الجامعة، وقد حرمه النظام التعليمي المخطط بغباء مدروس من متابعة قراءاته في الأدب. يحشو رأسه بالمعلومات في صحوه ويحشو نومه بكوابيس الامتحان.
أردت أن أقول لجورج أشياء كثيرة، لكنني صحوت ـ للأسف ـ قبل أن يتم موعدنا المسائي، وليس بوسع ساكن بيروت أن يلبي دعوة للعشاء في القاهرة في ذات اليوم، إلا إذا كان من أبطال ألف ليلة أو رجل أعمال يمتلك طائرة خاصة وجواز سفر أجنبي!
الآن فقط، وأنا أكتب إليك، ألاحظ أن الحلمين اللذين أذكرهما، يتعلقان بالصمت أيضاً. أظن أن أحد أحلام يقظتي هو إعادة الاعتبار إلى الصمت في الكتابة. وكثيراً ما أسائل نفسي: لماذا ليس لدينا علماء للصمت، مثل علماء للكلام؟!
أظن أن الثقافة العربية اللفظية لم تقدر الصمت كما ينبغي، على الرغم من أن الظاهر يقول غير هذا. الأمثال تجعله من ذهب، بينما الكلام من فضة. وعادة ما تصف كتب التراجم صاحب الفضل والهيبة بأنه “على طريقة مثلى من الصمت” لكن ما من إشارة في كتب اللغة تفصِّل “بلاغة الصمت” باعتباره بديلاً للكلام التافه.
“الصمت إن ضاق الكلام أوسع” هكذا أجمل الشعرُ المعنى عند أبي العتاهية، وتفصيل ذلك في نثر الجاحظ:”واعلم أن الصمت في موضعه ربما كان أنفع من الإبلاغ بالمنطق في موضعه، وعند إصابة فرصته. وذاك صمتك عند من يعلم أن لم تصمت عنه عياً ولا رهبة. فليزدك في الصمت رغبةً ما ترى من كثرة فضائح المتكلمين”.
إذاً لايُطلب الصمت لفضائله الذاتية، بل لأنه ستر من فضائح التكلم، في رأي الجاحظ المتطلب في شروط الكلام، فهو صاحب القول المشهور عن المعاني الملقاة وسط الطريق. وكم كانت انتباهته إلى أهمية “الصورة” ذكية ومدهشة في عصره، إذ خرج على ثنائية اللفظ والمعنى التي سادت لغو اللغويين. وعلى نهجه سار عبدالقاهر الجرجاني”وقد علمنا أن أصل الفساد وسبب الآفة، هو ذهابهم عن أن من شأن المعاني أن تختلف عليها الصور وتحدث فيها خواص ومزايا من بعد أن لاتكون(….) وذلك أنهم لما جهلوا شأن الصورة وضعوا لأنفسهم أساساً، وبنوا على قاعدة فقالوا: إنه ليس إلا المعنى واللفظ، ولا ثالث”.
القدرة على صناعة الصورة تحيي اللفظ ولاتنفك تجدد المعنى فيه.
واللفظ صنعة والمعنى صنعة، والصورة التي تحدث في المعنى صنعة، فما البال إذا كانت الصناعة رديئة؟! وأي معنى يتبقى بعد أن تأتي صنعة الذاكرة والرغبات لتفعلا فعلهما في تذكر الكلمات وفي تأويل ما نتذكره؟!
الفن وضع أيدينا على بلاغة الصمت التي سكتت عنها كتب الكلام؛ من الرسم والرقص والسينما، وغير ذلك من الفنون، عرفنا حكمة الصمت الأكثر حسية من الصوت، والأكثر دواماً في الذاكرة والوجدان. وفي رأيي أن الرواية يجب أن تتعلم الصمت من السينما.
بعد مصوري الطبيعة الصامتة، ربما لم ينبهنا فن إلى قيمة الصمت كما فعلت السينما، التي لم تكن في بدايتها “صامتة” كما هو شائع خطأ.
كانت السينما تتكلم، لكن صوتها لم يكن يخرج كالصارخ في كابوس، وكان التعليق المكتوب على الشاشة يؤكد رغبة في الكلام تبعث على الأسى، كأن أبطال الفيلم أصابهم الخرس فلجأوا إلى كتابة أفكارهم.
ولم تتحقق بلاغة الصمت إلا بعد أن استرد المحصور قدرته على الكلام، أي بعد أن أتاحت التقنية إسماع صوت السينما. وبعد أن شبعت من الكلام عادت إلى اعتماد الصمت خياراً جمالياً، وبلاغياً.
وهذا هو التحدي الذي تفرضه السينما على الأدب. ولم يعد تحدياً بقدر ما صار مسئولية ومهمة إنقاذ؛ فلغتنا سرح فيها اليباس، وليس من حل سوى إنعاشها بالصمت.
تذكرين “القصة الأخيرة” في كتابي الأيك؟ فشلت الرسائل المفعمة بالأشواق في إعادة الزوج المغترب، لكن رسالة بيضاء أعادته.
لن أكتب لك الآن كم أفتقدك. وسأبدأ في إمطارك برسائل الصمت، لعلك تعجلين بالمجيء.