القديس لا يحار..قصة ليحيى حقي

image

واحدة من قصص يحيى حقي غير الشهيرة والمدهشة

تحلل القديس من قيود الوطن والأهل والأصدقاء، ورحل يبلغ رسالته للناس، يبين لهم باطل الدنيا ودنس المال، ويدعوهم إلى اللحاق به فى هجرته إلى الله وحده، لا يملك شيئاً ولا يستقر فى مكان.
وسار وراءه نفر من أتباعه. رجال جاوزوا سن الثورة والاستهتار، خشنو الجلد والملبس، إذا نزلوا بلداً سهَّل إيواءهم وطعامهم.. وتشييعهم. ولو لم يتبعوه لظلوا أمام بيوتهم يصطلون الشمس طول النهار. ولكن من هذا الشاب الجميل الذى يسير فى مؤخرة الموكب: مديد القامة عليه سمة النبل، متئد الخطوة كأنه متبوع لا تابع. ما أصفى بياض يديه ورخاصة أنامله، يشد بها حافتى مسوحه، فكأنها مشبك من الأحجار الكريمة.. من يكون؟ ولماذا يسير مطرق الرأس؟.
إنه النبيل «ع» الابن الأصغر لسيد مقاطعة نائية. تربى فى كنف العز وعاشر السعداء، ولم تقع عينه على بؤس. ولما مات الأب وورث الابن الأكبر لقبه وضياعه. دعا أخاه المدلل وقال له:
– لا أريد أن أصبح مميزاً عنك فأنفرد بالخير كله، ومقامك فى قلب أبى الكريم كان فوق مقامى، فإن شئت عشنا معاً لك ما لى، وإن شئت اقتسمنا التركة بالتساوى.
فأطرق النبيل «ع» برأسه، ولم يجب. غادر القصر واعتكف فى كوخ صغير أياماً طويلة خرج بعدها يعلن لمن حوله أن هاتفاً هتف به بين اليقظة والمنام يدعوه أن التحق بالقديس. فلما ترامى الخبر إلى الناس عدوها كبرى معجزاته، وأكبروا فى النبيل نزوله عن الغنى والعز العريض، واختياره التكفف وسؤال الناس كسرة الخبز فى سبيل الله.
طارت شهرة الأمير النبيل بين الناس وتزاحموا حول الموكب لا ليروا القديس، فهم لا يجهلونه، بل ليتطلعوا إلى النبيل الوسيم كيف يبدو فى ثياب الراهب، ينصرف الرجال عن الموكب وهم أرضى نفسا وأهنأ بطعامهم وشرابهم. أما الأمهات والجدات فكن يسبحن بالله الذى سبقت إرادته، فاختار هذا الوليد لحياة كلها حرمان وقسوة، وما كان أقدر شبابه بالتمتع واللعب. أما الفتيات فكن إذا رأين يده الناعمة الرَّخصة فوق المسوح الخشنة وتطلعن إلى وجه الشاب الذى أصبح مناله صعباً بل حراماً، شعرن بقشعريرة تسرى فى أجسادهن، وركعن على الأرض يتمتمن بدعواتهن، ولكن أحدًا لم يفلح فى أن يرى عينيه.. لماذا هو مطرق؟ ولماذا يسير فى مؤخرة الموكب ولو شاء لكان فى أول الصفوف؟ ليس بينه وبين القديس إلا خطوة واحدة.
وفى يوم مر القديس وحاشيته على قصر منيف، فسأل عن صاحبه، فقيل له إنه لثرى عظيم لا همَّ له إلا اكتناز المال، ولم يسمع عنه فى يوم أنه أحسن بدرهم، فعدل القديس عن مواصلة سيره، ودخل القصر ليهدم منه للشيطان معقلاً، ويظفر بتخليص أرواح ساكنيه، فوجد الثرىَّ جالساً أمام مائدة، تتكدس عليها الأطباق والأقداح، عن يمينه زوجه، وعن يساره ابنته، وأمامه أولاده، ومن حوله أتباع وحشم يتطلعون لشفتيه، لعلهما تنبسان بأمر. امتلأت الردهة بالأصوات، ولكن الضجة لم تمنع النبيل – ولعل إطراقه ساعده على إجادة السمع – من أن ينتبه لضحكة رقيقة تحاول صاحبتها كتمانها فلا تقوى.. هل مبعثها سرور أو دهشة؟ أم هى سخرية ؟ رفع رأسه فوجد ابنة الثرى تتطلع إليه بعيون ندية كلها أضواء… ورأى كيف تحتال حتى جاء مقعده إلى جوارها.
وتفجر القديس يلوم، وكأن روحه ترمى بالشرر، ثم يعظ فكأن قلبه يفيض بالغيث المنهمر. وسحرت بلاغته الحاضرين فتقاربت الوجوه وتشابهت السحن، فما يميز بين السادة والخدم.
واختلطت الفتاة بالنبيل، وجرى بينهما حديث خافت:
– لو أنك مررت علينا من قبل لخطت لك هذا المسح على قدك، فإننى أشفق عليك وأنت تتعثر فى أذياله، وتتيه ذراعك فى أكمامه، فقل لى بالله عليك كيف تحتمله؟
– لا يكربك الأمر ! فلست دالفاً إلى مرقص، بل ساعٍ إلى رب ينظر إلى القلوب لا إلى الأثواب.
– ويلى إذاً؟ لقد كنت أظن الرقص عبادة، فما رقصت مرة إلا شعرت أننى أقرب إلى الله منِّى فى أوقات الفراغ والسأم.
وهنا وجد الشاب نفسه أسير نظرة فاحصة ماكرة هازئة كلها عطف وفهم، فيها بريق عين النهم وهو جائع مقبل على أشهى أطعمة وأضواء ولمحة الحبيبة إذا ما أشفى الحبيب غلتها.
جرحه نفوذ النظرة إلى قلبه فانقبض، ولكنه استراح، لعلمه أنه لو شاء لكان سلطانه على الفتاة أقوى من سلطانها عليه.
فأجابها قاصدًا هدايتها، كأنه لم يغضب ولم يبال:
– وماذا بعد الرقص؟ ألا تفكرين فى أن كل هذا سراب، وأن هناك موسيقى غير موسيقاكم؟ اللهم إنى كلى آذان لسماع أناشيد التسابيح بحمدك، الصاعدة من الكون، المدوية فى الفضاء، فأسألك اللهم أن تجعل من قسمتى سماعها!
– إن الله قد أغدق نعماءه على الكون، ولم يحرم منها إنساناً له قلب وبصر، فذهابك الآن تقرع باب الله دليل على أنك عشت إلى اليوم غافلاً عن جماله. وهذا ماض سيعقد لك فى مستقبلك وإن جاهدت. خذها عنى : إن الله لا يحب من عباده السائل اللحوح اللجوج، ولا من يستعين للوصول إليه بمسبحة طولها أمتار… ثم مالت الفتاة على أذنه تقول:
– هل اعترفت أنك فهمت أننى أعلم لماذا ارتديت المسوح؟ أنت طموح، مبدؤك إما الكل وإما العدم، تركت الثروة لأنها نصف، والدنيا لأن كل لذة فيها تنقضى، فإذا هى تقصر عن حد تتخيله، وتسير فى مؤخرة الصفوف لأنك لست على رأسها. ولو وقفت بين يدى الله لسألته. ما وراءك؟ فتواضعك هو الكبرياء وزهدك هو غاية الطموح. إننى أعلم أنك نشأت يتيم الأم، ولو عاشت لوجدت فى عطفها ما يرطب قلبك. وما أشبهه الآن بصخرة فى أعلى الجبل… ومع ذلك لم يفقد الأمل فيك. وقد اخترتك لنفسى، فابق: انظر إلىَّ، وتمتع بجمالى. ستعلمك قوة حبى كيف تؤمن أولاً بإنسانيتك، ليصح إيمانك بعدها بالله. إن لأبى جماعة من مهرة الموسيقيين، إذا وقعوا على آلاتهم أرقصوا الجماد. سأجعلهم يعزفون إذا أذن رئيسكم، ولا أظنه يرفض، وإلا لما كان قديساً- فماذا عليك لو خلعت المسوح وارتديت أبهى الأثواب فقمت إلىَّ وانحنيت أمامى، وتناولت يدى، ودارت ذراعك حول وسطى، وضممتنى إلى صدرك ورقصنا فتمثلت النغمة فى حركاتنا، ثم انفلتُّ عنك وأنا أَخبَر بك وأنت أدرى بى… وسترى أنه لا يزال هناك أمل.
انهدَّ كل شىء من حوله. لو أنه أطاع وساوسه لهوت يده عليها يشدها من شعرها، ويجرها على الأرض، ولداسها بقدميه أو لمال عليها ليغمرها بقبلاته، ولكنه خطا خطوة ليس عنها نكوص ولو نكث لما صدقه من بعد ذلك أحد، ولا صدق هو نفسه. ولقد بقى فى أذنه من كلام الفتاة لفظ (الأمل). إنه سيظل حيث هو، جاهداً فى طريقه، محتملاً ما لا تقوى على احتماله الجبال، آملا أنه سيرى فى النهاية بارقة الرضا فى وجه ربه الكريم… ولكن الآن! الآن! الحياة كلها أمامه فى متناول يده. آلاف الأصوات تناديه: أقبلْ! اشرب ! إننى عطشى.
وكان القديس لا يزال يعظ، ورويداً رويداً تطأطأت الرءوس على الصدور، وتصاعدت الآهات وانفجرت الدموع، وركع الجميع أمام القديس، يلثم رداءه من لم يستطع الوصول إلى يديه المرفوعتين إلى السماء.
وترك الثرى مائدته، وقف يقول للقديس بصوت يغالبه البكاء:
– أسلمت قيادى إليك، فأنا منذ اليوم من أتباعك. سأترك القصر وما فيه من متاع وما حوله من ضياع، سأترك مخازنى بعتيق شرابها، والحقل بعجيج دوابه، سأتبعك كظلك، ولن أكون وحدى، بل سيتبعنى أيضاً كل هؤلاء: زوجى، وأبنائى وزوجاتهم، وبناتى وأزواجهن، والأصهار والأتباع. أرنا الطريق ونحن فى أثرك.
لم يحر القديس جواباً، لم يتعقد جبينه فهو وضاء منير. ولم يزم شفتيه، فا بتسامته الجميلة هى هى، ولكنه غائب عن الجمع، نظرته تائهة، لعله يستمع إلى وحى خفى يقول:
– لو تبعوك لخرب القصر، وبارت الأرض، ونفقت الدواب. ومن أين لك إطعامهم وإيواؤهم وإيجاد عمل لهذا الجيش العرمرم؟ هل يتكففون الناس مثلك؟ والقديس من الواصلين الذين يستند إيمانهم على صخر لا يتزعزع، لا يعرف الشك ولا الريبة والتهكم. لم يثر فى قرارة نفسه ولم يقل:” إذاً ما حكمة رسالتى؟ وما قيمة المبدأ الذى خرجت أبشر به ؟ وكيف يكون الكيل كيلين والصاع صاعين؟ وإن كان ما يصح لى هو الحق، فلابد من أنه يصح للناس أجمعين”.
لم ينقص إيمان القديس ذرة، ولم يهتز لحظة. فكيف يكون قديسًا إذا بدت له المسائل كما تبدو لبقية الناس متناقضة مضطربة، مضحكة مبكية؟ لهؤلاء القديسين نظرة تشمل الكون وتفهم الأسرار، فما يبدو عجيبًا هو ذات الحكمة، وما يبدو متناقضاً هو عين الالتصاق. قال القديس بصوت كأنه يخرج من كهف عميق:
– يا بنى ! احمد الله أن هداك أنت ومن معك للحق… على يدى ! إن الطريق الذى تريد أن تسلكه وعر، لا يقوى عليه إلا القديسون أمثالى فامكث مكانك وأقبل على عملك، واسكن إلى زوجك، وداعب أولادك وبناتك، وأشرف على شئون خدمك وحشمك، وحقولك وضياعك، وتمتع بأكلك وشربك، على أن تعدنى أن تفعل الخير وتذكر الله. تمثله لنفسك فى كل لحظة حتى تعلم أن كل ما حولك زائل، وأنك مُلاقٍ ربك فمحاسبك حساباً لا يضيع مثقال ذرة من خير أو شر.
بدا الوجوم على وجه النبيل وكأنه لم يفهم شيئًا فاستمر القديس يقول: لا تحزن؛ إنك ستمكث فى القصر- فى نظرك- ولكنك ستكون مع ذلك من أتباعى. ما قيمة التمسك بالذيل واقتفاء الخطوة، فى حين أن الروح متبلد والذهن غائب؟ فتتبعنى بروحك، بإيمانك…ولك عليَّ أننى لن أنساك فى يوم. فلن يغيب عنك ندائى بل سأحمل شخصك فى قرارة قلبى. سأنشئ لك ولأمثالك طريقة خاصة بكم تلتحقون بها، فتربطنى وإياكم.
وعادت الردهة إلى هرجها ومرجها، ودبت فيها روح البهجة ودارت الأطباق والأكواب، وسكن الثرىُّ إلى زوجه وداعب أولاده وبناته، ونادى كلبه الأمين فأقعى تحت قدميه.
والتفت النبيل (ع) فوجد الفتاة عن يمينه، والقديس يهم بالانصراف عن يساره.. ولكن هاتفًا هتف به فإذا هو يتمتم لنفسه: نعم! لا تيأس من رحمة الله.
فجمع أطراف مسوحه، وجرى إلى الجمع واتخذ مكانه بينهم، فى آخر الصفوف هذه المرة، بل وراء القديس كأنه يلوذ به، وتحرك الجمع يرددون وراء القديس قوله:
“اتركوا الباطل الزائل واتبعونى!”
ووقفت الفتاة صامتة برهة، ثم همست تقول:
– يا له من غر مسكين لم يفهم الوحى. لما نادته رحمة الله أن ابق فإذا به يولى عنها وينصرف!
ثم ضربت الأرض بقدمها وصفقت تقول:
– موسيقى! ورقص!