يقولون إن ما أكتبه ليس أدبًا فما هو الأدب؟!
كلمة الكاتبة في احتفال جائزة نوبل
ترجمة: أحمد صلاح الدين
لست وحدي فوق هذه المنصة… هناك العديد من الأصوات حولي، المئات من الأصوات. معي دوما منذ الطفولة. نشأت في الريف. في طفولتنا، كنا نعشق اللعب خارج الدور، وعند قدوم المساء، تجذبنا كالمغناطيس أصوات نساء القرية المتعبة، حين يجلسن على الأرائك بالقرب من أكواخهن. لم يكن لأيهن أزواج، آباء، أو اخوة. لا أذكر وجود رجال في قريتنا بعد الحرب العالمية الثانية: أثناء الحرب، هلك واحد من بين كل أربعة في بيلاروسيا، سواء في القتال على الجبهة، أو مع المحاربين السريين. وبنهاية الحرب، عشنا أطفالا في عالم من النساء. أكثر ما أذكر أن النساء كن تتحدثن عن الحب، لا الموت. كن يتلون الحكايات عن وداع أحبتهن من الرجال في اليوم الذي سبق مغادرتهم للحرب، عن انتظارهن لهم، وكيف استمر انتظارهن. مرت سنوات، لكن انتظارهن لم يتوقف: “لا يعنيني لو فقد زراعيه ورجليه، سأحمله، دون أزرع … دون أرجل”.
أعتقد أني عرفت معنى الحب منذذ الطفولة.
هذه بعض الأنغام الحزينة يؤديها الكورس الذي أسمعه …
الصوت الأول:
ـــــــــــــــــــــــــــ
” لماذا تريد معرفة كل هذا؟ إنه لأمر محزن للغاية. قابلت زوجي أثناء الحرب. كنت ضمن طاقم دبابة في طريقه لبرلين. أذكر، كنا نقف بالقرب من الرايخستاج – لم يكن زوجي بعد – قال لي: “لنتزوج. أحبك.” كنت في احباط شديد – كنا نعيش وسط دنس، قذارة، دم طيلة الحرب، لا نسمع شيئا سوى سفالة. أجبت: “أولا اجعلني امرأة: اهدني بعض الورود، اهمس في أذني بتفاهات ساحرة. وعندما يتم تسريحي، سأصنع لنفسي ثوبا.” كنت محبطة لدرجة جعلتني أرغب في ضربه. وصله ما شعرت به.
احترقت احدى وجنتيه بشدة، واندمل الجرح تاركا أثره، رأيت الدموع تجري فوق الندب. قلت له: “حسنا، سأتزوجك،” هكذا ببساطة … لم أصدق أني نطقتها… لم يكن حولنا سوى الرماد والطوب المهشم، باختصار – إنها الحرب.”
الصوت الثاني:
ـــــــــــــــــــــ
“عشنا على مقربة من مفاعل تشيرنوبل. كنت أعمل في المخبز، أصنع الفطائر. كان زوجي رجل إطفاء. تزوجنا لتونا، نشبك أيدينا حتى ونحن في طريقنا للمتجر. يوم انفجار المفاعل، كان زوجي في عمله في مركز الإطفاء. تلقوا الاستغاثة وهم في ملابسهم العادية – حدث انفجار في محطة الطاقة النووية، ولم تتح لهم أية ملابس خاصة. هكذا كانت حياتنا … تعرف… قضوا الليل بطوله في مواجهة النار، واستقبلوا جرعات اشعاع ضد الحياة. تم نقلهم في الصباح التالي رأسا إلى موسكو. مرض اشعاعي خطير…لن تعيش أكثر من بضعة أسابيع… كان زوجي قويا، رياضيا، وكان آخر من مات. عندما ذهبت إلى موسكو، أخبروني أنه في غرفة عزل خاصة وأن الزيارة ممنوعة. قلت متوسلة: “لكني أحبه”. “يرعاهم الجنود. أين تظنين نفسك ذاهبة؟” “أحبه.” وفي محاولة لإثنائي قالوا: “لم يعد الرجل الذي تحبيه، هو الآن شيء يستوجب التطهير. أفهمت؟” كررت على نفسي نفس العبارة مرارا وتكرارا: أحبه، أحبه… في الليل تسلقت سلم الحريق لرؤيته… أو أسأل حراس الليل… أدفع لهم ليسمحوا لي بالدخول… لم أتخل عنه، كنت بجواره حتى النهاية… وفي غضون شهور بعد رحيله، أنجبت طفلة، لكن حياتها لم تدم سوى أيام. كانت سعادتنا غامرة بقدومها، لكني قتلتها… أنقذتني، امتصت كل الإشعاع. كانت صغيرة جدا… دقيقة الحجم… أحببتهما كليهما. هل في الإمكان أن تقتل بحب؟ لماذا الحب والموت قريبين هكذا؟ يأتيان دوما معا. من يمكنه شرح هذا؟ أركع عند القبر…”
الصوت الثالث:
ــــــــــــــــــــــــــــ
“أول مرة أقتل ألمانيا… كنت في العاشرة، أخذني المحاربون السريون في مهام خاصة. كان هذا الألماني يرقد على الأرض، جريحا… أُمُرت أن أستولي على مسدسة. اقتربت منه، أمسك بمسدسة بكلتا يديه مصوبًا إلى وجهي. عجز عن إطلاق الرصاص أولا، فعلت أنا…
لم يرعبني قتل إنسان… لم يخطر على بالي مطلقا أثناء الحرب. مات العديد من الناس، عشنا وسط الأموات. دهشت عندما حلمت بهذا الألماني فجأة بعدها بعدة أعوام. جاء على نحو غير متوقع… طاردني الحلم مرارا وتكرارا… حتى إذا قمت بالطيران، كان ليلحق بي. أحلق… أطير، أطير… يلحق بي وأسقط معه. أقع فيما يشبه الحفرة. أو أرغب في النهوض… الوقوف… لم يكن ليسمح لي… وبسببه، لم استطع الفرار…
الحلم نفسه … طاردني لعقود…
عجزت أن أحكي الحلم لابني. كان صغيرا- لم أستطع. أقرأ له حكايات الأساطير. لقد كبر ابني الآن – لكني لازلت عاجزة…”
أطلق فلوبير على نفسه “قلم انساني”، أستطيع أن أسمي نفسي “أذن إنسانية”. عندما أسير في الشارع وأمسك بالكلمات، العبارات، صيحات التعجب، أفكر دوما – كم من الروايات تختفي دون أثر! تختفي في الظلام. عجزنا عن الإمساك بالجانب الحواري الخاص بالحياة الإنسانية في الأدب. لا نقدره، لا يهزنا أو يسعدنا. لكنه يسحرني، وجعلني أثيرة له. أحب الطريقة التي يتحدث بها البشر… أحب صوت البشر الوحيد. هذا حبي وعشقي العظيم.
كان الطريق إلى هذه المنصة طويلا – أربعون عاما تقريبا، أتنقل من شخص لآخر، ومن صوت لآخر. لا أدعي أني كنت دوما على هذا المسار. أعترف أني تعرضت للصدمة والرعب من بني الإنسان. رأيت السعادة والعداء. تملكتني في بعض الأحيان الرغبة في نسيان ما سمعت، لأعود لزمن كنت فيه أعيش في جهل. وفي غير مرة أدركت الجلال في البشر، وودت أن أبكي.
عشت ببلد تعلم أولادها الموت منذ الطفولة. تعلمنا الموت. أخبرونا أن الإنسان وجد ليعطي كل شيء يملكه، ليحترق، ليضحي. تعلمنا أن نحب حاملي السلاح من البشر. ولو نشأت في بلد آخر، لم أكن لأتبع هذا الطريق. الشر قاس، عليك بالتطعيم ضده. نشأنا بين القاتلين والضحايا. وحتى لو عاش والدينا في رعب ولم يخبرونا بكل شيء – وغالبا لم يخبرونا بشيء على الإطلاق – هواء حياتنا نفسه كان مسمما. كان الشر يراقبنا طيلة الوقت.
كتبت خمسة كتب، لكني أشعر أنها جميعا كتاب واحد. كتاب عن تاريخ اليوتوبيا.
كتب فارلاك شالاموف ذات مرة: “كنت مشاركا في المعركة الكبيرة، المعركة التي خسرناها، للإحياء الحقيقي للبشرية.” أعدت بناء تاريخ تلك المعركة، انتصاراتها وهزائمها. تاريخ بشر أرادوا بناء مملكة السماء على الأرض. الجنة! مدينة الشمس! وفي النهاية، ما بقي لم يكن سوى بحر من الدماء، ملايين الحيوات الإنسانية المدمرة. جاء زمن لم تكن هناك أية فكرة سياسية في القرن العشرين تقارن بالشيوعية (أو ثورة أكتوبر كرمز)، في وقت لم يكن هناك ما يجذب المفكرين الغربيين والناس في العالم أجمع بهذه القوة والعاطفة الجياشة. أطلق ريموند أرون على الثورة الروسية “أفيون المفكرين” عمر، لكن فكرة الشيوعية بلغ عمرها على الأقل ألفي عام. نجدها في تعاليم أفلاطون دولة مثالية عادلة؛ وفي أحلام أريستوفانيس عن زمن “يملك فيه الجميع كل شيء.”… وفي توماس مور وتوماسو كامبانيلا… ومؤخرا في سانت سيمون، فورير، وروبرت أوين. لكن هناك شيء ما في الروح الروسية دفع نحو تحويل هذه الأحلام إلى حقيقة.
منذ عشرين عاما، ودعنا “الإمبراطورية الحمراء” السوفيتية بلعنات ودموع. يمكننا الآن أن ننظر للماضي بهدوء، كتجربة تاريخية. إنه أمر مهم، ذلك لأن الجدل حول الإشتراكية لم يمت. شب جيل جديد بتصور مختلف عن العالم، لكن لا زال العديد من الشباب يقرأ ماركس ولينين. هناك متاحف جديدة في المدن الروسية خصصت لستالين، وتم نحت تماثيل جديدة له.
ذهبت “الإمبراطورية الروسية”، لكن لم يزل الرجل السوفيتي هناك. إنه يبقى.
مات أبي مؤخرا. اعتنق الشيوعية حتى النهاية. كان يحتفظ بكارت عضوية الحزب. أعجز عن استخدام كلمة “سوفاك”، هذا اللقب الإزدرائي للعقلية السوفيتية، لأن علي أن أطبقه على أبي والقريبين مني، أصدقائي. لقد جاءوا جميعا من نفس المكان – الإشتراكية. هناك العديد من المثاليين بينهم. الرومانسيون. اليوم يطلق عليهم أحيانا سومانسيو العبودية. عبيد اليوتوبيا (المدينة الفاضلة). أؤمن أن جميعهم كان بإمكانهم أن يحيوا حياة مختلفة، لكنهم عاشوا الحياة السوفيتية. لماذا؟ بحثت عن الإجابة لزمن طويل – سافرت عبر البلد الذي سموه يوما الإتحاد السوفيتي، وسجلت آلاف الأشرطة. كانت الإشتراكية، ببساطة كانت حياتنا. لقد جمعت تاريخ الإشتراكية “المحلية”، “الداخلية”، جزءا تلو الآخر. تاريخ الدور الذي لعبته في روح البشر. تشدني هذه المساحة المسماه بالإنسان… الفرد. في الواقع، هنا حيث يحدث كل شيء.
بعد الحرب مباشرة، كتب تيودور أدورنو مندهشا: “إن كتابة الشعر بعد أوشفيتز عمل بربري.” شعر استاذي أليس أداموفيتش، الذي أذكره اليوم بعرفان، إن كتابة النثر عن كوابيس القرن العشرين يعد دنسا. لا يمكن اختراع شيء. يجب أن تقدم الحقيقة كما هي. لابد من “أدب استثنائي”. يجب أن يحدث الشاهد. حضرتني كلمات نيتشه – لا يمكن لفنان أن يكون على مستوى الواقع. لن يستطيع حمله.
أزعجني دوما أن الحقيقة لا يحملها قلب واحد، عقل واحد، إنها حقيقة متشظية على أية حال. الكثير منها هناك، متنوعة، لقد نثرت في أرجاء العالم. اعتقد داستايافسكي أن الإنسانية تعرف الكثير، تعرف أكثر بكثير مما عرف الأدب. إذن ماذا أفعل؟ أجمع مشاعر، أفكار، وكلمات الحياة العادية. أجمع حياة زمني. أهتم بتاريخ الروح. الحياة اليومية للروح، الأشياء التي تمحوها الصورة الكلية للتاريخ، أو تحتقرها. أعمل على التاريخ الغائب. يقولون لي كثيرا، حتى الآن، أن ما أكتبه ليس أدبا، إنه وثيقة. ما هو الأدب اليوم؟ من بإمكانه أن يجيب على هذا السؤال؟ نعيش أسرع من أي وقت مضى. يمزق المحتوى الشكل، يكسره ويغيره. كل شيء يفيض متعديا شواطئه، الموسيقى، الرسم – حتى الكلمات في الوثائق تهرب من حدود الوثيقة. لا حدود بين الحقيقة والتلفيق، أحدهما يتدفق نحو الآخر. الشهود ليسوا متجردين. أثناء تلاوة الحكايات، يبدع البشر، يتصارعون مع الزمن مثل المثال مع الجرانيت. إنهم ممثلون ومبدعون.
أنا مهتمة ببسطاء الناس. البسطاء العظماء، تلك طريقتي، فبالمعاناة يتمدد البشر. في كتبي، يحكي هؤلاء البشر تواريخهم الصغيرة، فيتشكل التاريخ الكبير في الطريق. لم تتح لنا الفرصة لفهم ما جرى ويجري لنا، نحتاج فقط أن نحكيه. ولنبدأ، علينا على أقل تقدير أن نوضح ما جرى. نخاف هذا، لا يمكننا الانسجام مع الماضي. في رواية داستايافسكي “الشياطين”، يقول شاتوف لستفروجين في بداية حوارهما: “إننا مخلوقان تقابلنا في “لانهائية لا حدود لها”… للمرة الأخيرة في العالم. لذا عليك بالتخلص من هذه النبرة والتحدث كإنسان. مرة واحدة على الأقل، تحدث بصوت إنسان.”
ربما هذه هي الطريقة التي تبدأ بها الحوارات بين أبطالي. يتحدث الناس وفق زمانهم، بالطبع، لا يمكنهم الحدث من الفراغ. لكن من الصعب الوصول للروح الإنسانية، تشتت الطريق بالتليفزيون والجرائد، وأساطير القرن، تحيزاته، وضلالاته.
أود قراءة بعض الصفحات من يومياتي لإيضاح كيفية تحرك الزمن… كيف ماتت الفكرة… كيف واصلت طريقها…
1980 – 1985
أكتب كتابا عن الحرب… لماذا عن الحرب؟
لأننا ناس الحرب – كنا دائما في الحرب أو نستعد لها. إذا ما نظر أحد بعناية، يجد أننا جميعا نفكر بمصطلحات الحرب، في البيت، كما في الشارع. هكذا تبدو الحياة الإنسانية رخيصة جدًا في هذا البلد. الحرب في كل شيء.
بدأت بالشكوك. كتاب آخر عن الحرب العالمية الثانية… لماذا؟
في إحدى الرحلات، قابلت امرأة عملت طبيبة أثناء الحرب. حكت لي قصة: وبينما كانوا يعبرون بحيرة لادوجا خلال الشتاء، لاحظ العدو الحركة وبدأ في إطلاق الرصاص. سقط الناس والخيول تحت الثلج. حدث كل هذا ليلا. أمسكت شخصا ظنت أنه مصاب وشرعت في سحبه نحو الشاطيء. قالت: “سحبته، كان مبتلا عاريا، ظننت أن ملابسه تمزقت”. عندما وصلت للشاطيء، اكتشفت أنها سحبت سمكة ستيرجون ضخمة مصابة. ثم تلفظت بسيل من الألفاظ الفاحشة: يعاني البشر، لكن الحيوانات، الطيور، الأسماك – ماذا يفعلون؟ وفي رحلة أخرى سمعت قصة لطبيب من وحدة الفرسان. سحبت خلال احدى المعارك جنديا مصابا من حفرة لغم، لاحظت حينها أنه كان ألمانيا كسرت قدمه وهو ينزف. كان من الأعداء! ماذا عليها أن تفعل؟ أهلها يموتون هناك! لكنها طببت الألماني ثم زحفت للخارج مجددا. جرت جنديا روسيا فقد وعيه، وعندما جاء حيث الألماني أراد قتله، عندها سحب الألماني سلاحه مستهدفا قتل الروسي. “لأصفع أحدهما، ثم الآخر. تغطت أرجلنا جميعا بالدم.” ثم تذكرت: “اختلط الدم جميعه.”
هذه هي الحرب التي سمعت عنها. حرب النساء. لم تكن حرب الأبطال. لم تكن تخص جماعة من الناس يقتلون بعضهم البعض على نحو بطولي. أذكر نحيب امرأة: “بعد المعركة، ستمشي عبر الميدان. يرقدون على ظهورهم… جميعهم صغير وسيم. يرقدون محلقين في السماء. شعرت بالأسف تجاههم، على الجانبين.” إنه هذا السلوك، “جميعهم، على الجانبين،” ذلك الذي أعطاني الفكرة التي سيتناولها الكتاب: الحرب ليست سوى قتل. هكذا سجلت في ذكريات النساء. كان هذا الشخص مبتسما، يدخن – الآن غاب. الغياب كان محور حوارات النساء، كيف يمكن لكل شيء أن يتحول للاشيء أثناء الحرب. كل من الإنسان وزمنه. نعم، لقد تطوعوا للعمل على الجبهة في سن السابعة عشر أو الثامنة عشر، لكن لم يكن لديهم رغبة في القتل. وفوق هذا – كانوا على استعداد للموت. الموت من الأجل الوطن الأم. والموت من أجل ستالين – لا يمكنك أن تزيل هذه الكلمات من التاريخ.
لم ينشر الكتاب على مدار عامين، لم ينشر قبل البيريسترويكا وجارباتشوف. قال لي الرقيب: ” بعد قراءة كتابك لن يقاتل أحد”. ” كتابك مرعب، لماذا لا يوجد أبطال؟” لم أبحث عن أبطال. كتبت التاريخ من خلال قصص الشهود المجهولين والمشاركين. لم يسألهم أحد من قبل. فيم يفكر الناس؟ لا نعرف كيف يرى الناس الأفكار العظيمة. بعد الحرب مباشرة، يحكي شخص قصة عن حرب، ثم بعدها بعقود قليلة، حرب أخرى، بالطبع. شيء ما سيتغير في داخله، ذلك لأنه طوى حياته بالكامل في ذكرياته. نفسه كاملة. كيف عاش خلال تلك السنوات، ماذا قرأ؛ رأى؛ قابل. فيم يعتقد. وأخيرا، هل يشعر بالسعادة أم لا. الوثائق كائنات حية، تتغير كما نتغير.
أومن تماما أنه لن توجد فتيات في الحياة مثل فتيات عام 1941. كانت هذه ذروة الفكرة “الحمراء”، أعلى من الثورة ذاتها، ومن لينين. غطى الانتصار على الجولاج. أعشق هاتيك النساء. لا يمكنك التحدث إليهن عن ستالين، أو عن أن ملء القطارات من أشجع وأجرأ الأبطال، بعد انتهاء الحرب، تم ارسالهم مباشرة إلى سيبريا. ذهب الباقون إلى منازلهم ولاذوا بالصمت. سمعت يوما: “الفترة الوحيدة التي تمتعنا فيها بالحرية كانت أثناء الحرب. على الجبهة.” رأس مالنا المعاناة، هي موردنا الطبيعي. ليس النفط أو الغاز – هي المعاناة. هي الشيء الوحيد الذي نستطيع انتاجه جيدا. أبحث دائما عن الإجابة: “لماذا لا تتحول معاناتنا إلى حرية؟ هل حقا كل هذا هباء؟ صدق شاداييف: روسيا بلد بلا ذاكرة، مساحة من فقدان الذاكرة، وعي بكر للنقد والتأمل.
لكن الكتب العظيمة متراكمة تحت أقدامنا.
1989
أنا في كابول. لا اريد الكتابة عن الحرب مجددا. لكني الآن في حرب فعلية. قالت جريدة برافدا: “نساعد اخواننا الأفغان في بناء الاشتراكية.” المحاربون وأدوات الحرب في كل مكان. زمن الحرب.
لم يسمحوا لي بمصاحبتهم في المعركة. “ابق في الفندق يا آنسة. سنلبي طلبك فيم بعد. ” أجلس في الفندق، أفكر: هناك شيء لا أخلاقي في فحص شجاعة الآخرين والمخاطرات التي يخوضونها. أنا هنا منذ أسبوعين، ولم يهتز شعوري أن الحرب منتج ذو طبيعة ذكورية، وهو أمر ملتبس بالنسبة لي. لكن لوازم الحرب اليومية مهيبة. اكتشفت أن الأسلحة جميلة: المدافع، الألغام، الدبابات. بذل الإنسان جهدا ذهنيا كبيرا ليصل لأفضل وسيلة لقتل انسان آخر. الخلاف الأزلي بين الحقيقة والجمال. عرضوا لي لغم إيطالي جديد، وكان رد فعلي “الأنثوي” أن : “جميل.” لماذا هو جميل؟” شرحوا لي بدقة، بمصطلحات عسكرية: إذا مر راكب أو مترجل على اللغم، وعند زاوية معينة … لن يتبق منه شيء سوى ملء وعاء من اللحم. يتحدث الناس عن أمور غير طبيعية، كأنها طبيعية، مسلم بها. حسنا، تعرف إنها الحرب …لا يجن أحد من هذه الصور – على سبيل المثال، هناك رجل يرقد على الأرض لقي مصرعه، ليس بالأسلحة، أو القدر، إنما قتله إنسان آخر.
شاهدت تحميل “الزنابق السوداء” (الطائرة التي تحمل المصابين للوطن في توابيت الزنك). غالبا ما يرتدي الموتى زيا عسكريا قديما من الأربعينيات، مع سراويل ركوب الخيل؛ أحيانا لا يوجد منها ما يكفي. قال الجنود أثناء دردشة: “أرسلوا موتى جدد إلى الثلاجات. رائحة الجثث كالخنزير العفن.” سأكتب عن هذا. أخشى ألا يصدقني بني وطني. تكتب صحفنا فقط عن دروب الصداقة التي زرعها الجنود السوفييت.
أتحدث مع الرجال. الكثر منهم أتى متطوعا. طلبوا القدوم إلى هنا. لاحظت أن معظمهم ينتمى لعائلات متعلمة، الانتيليجينسيا – المعلمون، الأطباء، أمناء المكتبات – اختصارا، أهل الكتب. كان لديهم حلما مخلصا بمساعدة الأفغان في بناء الاشتراكية. الآن يسخرون من أنفسهم. رأيت مكانا في المطار حيث المئات من توابيت الزنك تلمع بغرابة في الشمس. لم يتمالك الجندي المصاحب لي نفسه قائلا: “من يعرف … ربما سيأتي دوري ويوضع تابوتي هناك… سأرقد داخلها … من أجل ماذا أقاتل هنا؟ ” ارتعب من كلماته، ثم قال: “لا تكتبي هذا.”
حلمت ليلا بالموتى، بملامحهم التي ارتسمت عليها الصدمة: ماذا، هل تعني أني تعرضت للقتل؟ هل قتلوني فعلا؟”
ذهبت إلى مستشفي للمدنيين الأفغان مع مجموعة من الممرضات – أحضرنا هدايا للأطفال. ألعاب، حلوى، بسكويت. كان لدي خمسة من دببة تيدي. وصلنا إلى المستشفى، ثكنات طويلة. لم يكن هناك أكثر من بطانية واحدة لكل فراش. اقتربت مني شابة أفغانية ، تحمل طفلا على ذراعيها. أرادتني أن أقول شيئا – خلال العشر سنوات الأخيرة تعلم الكل هنا تقريبا أن يتحدث القليل من اللغة الروسية – أعطيت الطفل لعبة، أخذها بأسنانة. سألت باستغراب: “لماذا بأسنانة؟” سحبت البطانية عن جسده الصغير – الطفل فقد ذراعيه. “حدث عندما بدأ مواطنيكم الروس في القصف”، كدت أسقط مغشيا علي لولا أمسك بي أحد الأشخاص.
رأيت كيف تحول صواريخ “جراد” القرى إلى أرض محروثة. زرت المقابر الأفغانية، التي كانت بحجم أحد قراهم. كانت هناك امراة أفغانية تصرخ وسط المقابر. تذكرت ولولة أم في إحدى القرى بالقرب من مينسك عندما حملوا تابوت الزنك إلى البيت. لم يكن البكاء إنسانيا أو حيوانيا… إنه يشبه من سمعته في مقابر كابول…
على أن أعترف أنني لم أتحرر فجأة. تعاملت بإخلاص مع مصادري، ووثقوا بي. لكل منا طريقه أو طريقها نحو الحرية. قبل أفغانستان، آمنت بالاشتراكية بوجه إنساني. عدت من أفغانستان وقد تحررت من كل أوهامي. قلت لأبي عندما رأيته: “اغفر لي يا أبي”، “ربيتني على الإيمان بالمثل الشيوعية، لكن رؤية هؤلاء الرجال، طلبة مدارس سوفييت مثل تلامذتكم أنت وأمي (كان أبي وأمي مدرسين بمدرسة القرية)، يقتلون أناسا لا يعرفونهم، بأرض غريب، كان هذا كافيا لتتحول كلماتك إلى رماد. إننا قاتلون يا بابا، هل تفهم!؟” وبكى أبي.
عاد العديد من الناس أحرارا من أفغانستان. هناك ايضا مثال آخر. صرخ في رفيق صغير في أفغانستان: “أنت امراة، ماذا تفهمين عن الحرب؟ تتصورين أن الناس يموتون موتا جميلا في الحرب، مثلما يحدث في الكتب أو الأفلام؟ لقي بالأمس صديقي مصرعه، رصاصة في رأسه، ظل يجري لعشرة أمتار، محاولا السيطرة على نفسه…” بعد سبع سنوات، صار نفس الشاب رجل أعمال ناجح، يحب حكاية القصص عن أفغانستان. تواصل معي قائلا: “عم تتحدث كتبك؟ إنها مخيفة.” لقد كان شخصا مختلفا، لم يعد ذلك الشاب الصغير الذي قابلته وسط الموت، لم يرغب في الموت في العشرين من عمره.
أسأل نفسي ما نوع الكتاب الذي أريد كتابته عن الحرب. أود كتابة كتاب عن شخص لا يطلق النار، لا يمكنه قتل انسان، يعاني من فكرة الحرب ذاتها. أين هو؟ لم أقابله.
1990 – 1997
يكمن إمتاع الأدب الروسي في أنه الأدب الوحيد الذي يحكي قصة تجربة جرت في بلد ضخم. أتعرض كثيرا للسؤال: هل تكتبين دوما عن التراجيديا؟ لأن هذه هي الكيفية التي نعيش بها. نعيش في دول مختلفة الآن، لكن الرجال “الحمر” في كل مكان. يأتون من نفس الحياة، ويملكون نفس الذكريات.
قاومت الكتابة عن تشيرنوبل منذ وقت طويل. لم أكن أعلم كيف أكتب عنها، ما هي الوسيلة التي يمكن استخدامها، كيف أتعامل مع الموضوع. ربما لم يسمع العالم أي شيء عن بلدي الصغير، المنطوي في ركن من أورويا، لكن الآن يجرب اسمه على كل لسان. نحن، أهل بيلاروسيا، صرنا شعب تشيرنوبل. أول من خبر المجهول. الأمر واضح الآن: إلى جانب التحديات الشيوعية، العرقية، الدينية، هناك تحديات أخرى عالمية بربرية تنتظرنا، رغم أنها غير مرئية في اللحظة الراهنة. الأمر الذي ظهر قليلا بعد تشيرنوبل…
أذكر سائق تاكسي عجوز أقسم يائسا عندما اصطدمت حمامة بالزجاج الأمامي: “يوميا، يصطدم زوج من الطير أو ثلاثة طيور بالزجاج. لكن الصحف تقول أن الموقف تحت السيطرة.”
تجمعت الأوراق في متنزهات المدينة، بعد مغادرة البلدة، ودفنت. انبترت الأرض من المناطق الملوثة ودفنت، أيضا – دفنت الأرض داخل الأرض. حتى الحطب والعشب دفنوا. بدا الجميع وقد ناله قدر من الجنون. أخبرني نحال عجوز: “خرجت للحديقة هذا الصباح، ثمة شيء ناقص، صوت مألوف. لم يعد هناك أي نحل. لم أسمع صوت نحلة. اية نحلة! ماذا؟ ماذا يجري؟ لم يخرجوا في اليوم الثاني أو الثالث… ثم علمنا أن حادثا وقع في المحطة النووية – وهي ليست ببعيدة. لكننا لم نعلم عنها شيئا لفترة طويلة. عرف النحل، لكننا لم نعرف. ” كل المعلومات التي وردت عن تشيرنوبل في الصحف كانت مكتوبة بلغة عسكرية: انفجار، أبطال، جنود، إخلاء… كانت المخابرات السوفيتية (كى.جي. بي) تعمل هناك في المحطة. كانوا يبحثون عن جواسيس ومخربين. مضمون الشائعات التي تم تدويرها أن الحادث كان مدبرا بواسطة أجهزة الاستخبارات الأجنبية لَضرب المعسكر الاشتراكي. كانت المعدات العسكرية في طريقها إلى تشيرنوبل، ومعها الجنود. وكالمعتاد، عمل النظام كأنما في حالة الحرب، لكن في هذا العالم الجديد، كان الجندي حامل البندقية الجديدة اللامعة شخصية تراجيدية. الشيء الوحيد الذي استطاع فعله هو امتصاص جرعات كبيرة من الإشعاع والموت عند عودته للبيت.
تحول أمام عيني شعب ما قبل تشيرنوبل إلى شعب تشيرنوبل.
لا يمكنك رؤية الإشعاع، أو لمسه، أو شمه… كان العالم من حولنا مألوفا وغير مألوف. عندما سافرت إلى المنطقة، أخبروني فورا: لا تقطفي الورود، لا تجلسي على العشب، لا تشربي ماء البئر… الموت يختبيء في كل مكان، أما الآن فهذا نوع مختلف من الموت. ارتداء قناع جديد. متخفيا على نحو غير مألوف. تم إخلاء كبار السن، ممن استمروا على قيد الحياة بعد الحرب، مرة أخرى. نظروا إلى السماء: “الشمس مشرقة… لا دخان، لا غاز. لا أحد يطلق الرصاص. أي حرب هذه؟ لكن علينا أن نصبح أسرى”.
في الصباحات، يمسك الجميع الصحف، متلهفين للأخبار، ثم يطرحونها وقد تملكهم الإحباط. لم يعثر على أثر للجواسيس. لم يكتب أحد عن أعداء الشعب. عالم بلا جواسيس ولا أعداء الشعب عالم غير مألوف. كان هذا بداية لأمر جديد. جعلتنا تشيرنوبل، التي تبعت خطوات أفغانستان،أحرارا.
يبدو العالم بالنسبة لي منقسما: داخل المنطقة لم أشعر أني بيلاروسية، أو روسية، أو أوكرانية، لكني أمثل نوعا بيولوجيا يمكن تدميره. تداخلت كارثتان: في المجال الاجتماعي، تغرق أتلانتيس الاشتراكية؛ وعلى مستوى الكون – هناك تشيرنوبل. انهيار الامبراطورية أحبط الجميع. انتاب الجميع القلق بخصوص الحياة اليومية. كيف وبم يمكن شراء الأشياء؟ كيف يمكن البقاء؟ بم نؤمن؟ ما هي الرايات التي يمكن اتباعها الآن؟ أو هل هناك حاجة لتعلم كيفية العيش بدون فكرة عظيمة.تبدو الأخيرة غير مألوفة قليلا، كذلك، لم يعش أحد بهذه الطريقة من قبل. واجه الرجل “الأحمر” المئات من الأسئلة، لكنه كان وحيدا. لم يحدث أن كان وحيدا كما كان أول أيام الحرية. حاوطني الناس وهم في صدمة…
أغلقت اليوميات…
ماذا جرى لنا عندما انهارت الامبراطورية؟ في الماضي، انقسم العالم: القتلة والضحايا – هكذا كان الجولاج؛ أخوة وأخوات – كانت الحرب؛ الهيئة الانتخابية – كانت جزءا من التكنولوجيا والعالم المعاصر. انقسم عالمنا أيضا لمن تعرض للسجن، والسجان؛ اليوم هناك انقسام بين محبي السلافية و المستغربين، الفاشيين والوطنيين. وبين من يمكنه شراء الأشياء ومن لا يستطيع. يمكنني القول إن الصنف الأخير أبشع مآسي اتباع الاشتراكية، لأن الجميع كانوا سواسية منذ وقت ليس ببعيد. لم يكن بإمكان الرجل “الأحمر” أن يدخل مملكة الحرية التي حلم بها حول طاولة المطبخ. انقسمت روسيا دونه، ثم ترك دون شيء، مهانا منهوبا، عدوانيا خطيرا.
هذه بعض التعليقات التي سمعتها خلال سفري في أنحاء روسيا…
“سيصبح التحديث حقيقة هنا فقط مع الشارشكا، معسكرات اعتقال العلماء ورجال الإطفاء.”
“لا يحلم الروس بالثراء، هم خائفون من هذا. ماذا يريد الروس؟ شيئًا واحدًا فقط: ألا يصيب أحد أي قدر من الثراء. لا أحد أغنى منه.”
“لا يوجد شرفاء هنا، إنما قديسون.”
“لن نرى جيلا لم يتعرض للجلد؛ لا يفهم الروس الحرية، يحتاجون إلى الفارس والسوط.”
“أهم كلمتين في اللغة الروسية هما “الحرب” و”السجن”. تسرق شيئا، تنال بعض المتعة، ثم يحتجزونك… تخرج، ثم ينتهي بك الأمر ثانية في السجن…”
“يجب أن تكون الحياة الروسية آثمة حقيرة. ثم ترقى الروح، فتجد أنها لا تنتمي إلى هذا العالم… كلما كانت الأمور أكثر دموية وقذرة، كلما كان هناك متسع للروح…”
“لا يملك أحد الطاقة على ثورة جديدة، أو الجنون. لا روح. يحتاج الروس إلى نوع من الأفكار التي ترتعد لها فرائسك…”
“إذن تتذبذب حياتنا بين الثكنات ومستفيات الأمراض النفسية. لم تمت الشيوعية، لا يزال الجسد حيا.”
أبوح بأننا خسرنا الفرصة التي أُتيحت لنا في التسعينيات. وجه السؤال: أي نوع من البلاد نريد؟ بلدًا قويًا، أم بلدًا ذا قيمة حيث يعيش الناس على نحو محترم؟ اخترنا الأول – بلد قوي. مرة ثانية نعيش في زمن القوة. يقاتل الروس الأوكرانيين. إخوانهم. أبي من بيلاروسيا، أمي من أوكرانيا. هكذا كان الأمر للعديد من الناس. الآن، تقصف الطائرات الروسية سوريا…
استبدل زمن مليء بالأمل بآخر عنوانه الخوف. دارت الأيام وتحول اتجاه الزمن للوراء. الزمن الزي نعيشه الآن هو زمن المستعمل…
أحيانا يساورني الشك أني انتهيت من كتابة تاريخ الرجل “الأحمر”…
لدي ثلاثة منازل: أرضي في بيلاروسيا، وطن أبي، حيث عشت حياتي بأكملها؛ أوكرانيا، وطن أمي، حيث ولدت؛ ثقافة روسيا العظيمة، التي لم أكن أتخيل نفسي بدونها. كلهم أعزاء على نفسي. لكن في هذا اليوم، وهذا العمر، من الصعب الحديث عن الحب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن جريدة “أخبار الأدب”.