في ذكرى إعدامه: صدام ..المعبود جبرًا واختيارًا

صدام 1
فتنة الإعدام

في حياته قدم صدام حسين1 خدمات جليلة للأمريكيين، بسوء نية أو بسوء تصرف، وقد حملوا له الجميل وردوه في اللحظة الأخيرة من حياته بشنقه في يوم العيد؛ فجعلوه بطلاً.

فوّت صدام فرص ميتات أسطورية عديدة، كان عليه أن يتخذ قراره الذاتي بالموت فيها، علي الأقل يوم سقوط بغداد ويوم العثور عليه في الحفرة، وقد تقاسم في يوم الغزو الخزي مناصفة مع الغزاة، واستأثر بالنصيب الأكبر يوم الحفرة ، عندما عرضوه بأثر التخدير الواضح في هيئة مزرية أثارت استياء العالم، لكنه عاد ليسترد صورته عبر ثباته في المحاكمة الهزلية، بالغًا الذروة يوم الإعدام.

اخترق صدام تاريخية التاريخ بتماسكه في لحظة الإعدام، ليصنع أسطورته المتسامية فوق خطاياه الكثيرة. صار ملكاً للجميع؛ ملكاً لمعارضيه ومؤيديه، لحلفائه وضحاياه، مثلما تؤول كل الأساطير إلي شعوبها.صدام

لم تغب رمزية النحر في يوم العيد عن كل من تناولوا حفل الإعدام الفظ؛ فهو تضحية بكل العرب علي مذبح الاحتلال.

والقراءة المتعجلة وضيقة النظر تقول بأنها تضحية بالسنة من العرب خاصة، بسبب الصوت المتشفي في غرفة الإعدام الذي طلب الجحيم لروح المشنوق بصيغة شيعية في الدعاء. لكن الحدث في حقيقته كان أمثولة تضحية بالأمة كلها، وإعادة نحر العراق المنحور أصلاً، إعادة التأكيد علي أن ذبح البلد الحزين تم من الوريد إلي الوريد؛ فالشعارات الشيعية تم تسريبها عمداً لتصب مزيدًا من الزيت علي النار، ليتكفل العراقيون ببعضهم البعض ويجلس جنود الاحتلال يتفرجون.

كان الصوت محاولة لتغذية الخلط، وتلبيس خطايا صدام بوصفها خطايا السنة ضد الشيعة.

هزلية المحاكمة ورفض المطلب الأخير للأسير بالأعدام رميًا بالرصاص، والتنفيذ يوم العيد، والهرج الحقود لحظات التنفيذ، وقائع أعادت تظهير الصورة البشعة للمحتلين الديمقراطيين وعكازهم العراقي (الحكومة الديمقراطية تحت التمرين).

هذا الغل الذي لم يتمكنوا من الإرتفاع فوقه كبشر، وقوانين الحرب والسلم التي داسوها بأحذيتهم، وكرامة أسير حاولوا النيل منها، كل هذا جاء بما لايشتهونه.. أخذوا من خطايا صدام ووضعوها في ميزان خطاياهم، وخلقوا قبولاً إرادياً لأسطورته. لم يرتد صدام القناع كعادة المحكومين بالإعدام، بل ارتداه جلادوه. ظهر ثابتاً يضبط كوفيته الفاخرة في اللحظة التي يخرأ فيها أشد الرجال جسارة، فرحل كأسطورة استدعت من التاريخ أساطير تتقوي بها.

 

لم يفت البعض تشبيهه بالحلاج الصامد علي صليبه، وتشبيه الحكام العرب برجال السلطان بوش، علي ما في هذه المماهاة من تجاوز لقوانين التاريخ، لكن من قال إن الأسطورة تلتزم بالتاريخ؟! إنها علي الضد منه تماماً، مثلما يقف الاحتلال علي الضد من مستقبل العراق.

وإذا ما تأملنا قسمة الأقنعة بين صدام وشانقيه، سنكتشف أنها لم تكن قسمة خاصة باللحظة الأخيرة في حياة البطل التراجيدي، بل تنسحب علي علاقة الطرفين خلال مسيرته السياسية كلها؛ فالقوي الكبري دأبت علي لبس الأقنعة، وتشجيعه علي السير سافراً إلي حروب عبثية.

ويبدو أن أعداءه وضحاياه أشفقوا عليه من هذا السفور، فكانت الأساطير عن حياته الشخصية وتأمينه، وبينها أسطورة البدلاء الذين يشبهونه ويظهرون في المواكب والمناسبات الاجتماعية نيابة عنه!

وأياً كان حظ هذه الشائعة من الحقيقة، فإن الرجل الذي رفض الأقنعة في مواجهاته ومغامراته العسكرية، كان مفرطاً في ارتداء الأقنعة الاجتماعية والسياسية من عباءة العشيرة إلي حلة المقاتل إلي عباءة الإسلام. تلك الأقنعة يلجأ إليها كثير من الحكام بدهاء سياسي للتقرب من فئة اجتماعية أو جماعة عرقية، لكنها عند صدام لم تكن حيلة سياسية، بل تحسب علي الطبيعة الإلهية التي يتصورها الدكتاتور لنفسه، فهو المحارب والزارع والعالم والمعلم والراعي!

حلل أحمد عكاشة أستاذ الطب النفسي ثبات صدام حسين لحظة الإعدام بنوع من التسامي جعل روحه تحلق عالياً بعيداً عن جسده، ووصف ذلك بأنه نوع من الفصام. ويمكننا أن نستبدل لفظ الثبات بـ الصمود؛ لنكون أقل خيانة للغة الزعيم، الذي بدأ رحلة الصمود في مواجهة كامب ديفيد، ثم في الحرب مع إيران، ثم التخلي عن الصمود بعد ثماني سنوات من دون ذكر الأسباب ومن دون الاعتذار للضحايا، لينتقل سريعاً إلي غزو الكويت والصمود علي احتلالها، فالخروج منها إلي صمود تحت الحصار، وتحت الغزو، ثم الصمود في الحفرة، فالصمود في المحاكمة الهزلية، وانتهاء بصمود حفل الإعدام الفظ!

وقد ذهب صدام إلي كل تلك المواجهات بتسام فصامي، عائشاً في زمن الآلهة اللانهائي، غير مدرك لمتطلبات اللحظة التاريخية، ومن دون احترام لقانون السياسة الأساسي كفن للممكن. والمأساة التي خلفها هذا التسامي أن صموده كان ينتهي إلي ما هو أدني من اللاشيء.

قد يفتقر هذا القول إلي اللياقة، علي الأقل لأننا مأمورون بذكر محاسن الموتي اكتفاء بمخازي الجلادين، لكننا لسنا بصدد رجل ميت، بل بصدد أسطورة، وتراجيديا إنسانية كبري أياً كان موقفنا السياسي من الرجل.

جرب صدام كتابة الرواية من دون نجاح يذكر، بينما كان، ملهمًا بعدم التوفيق، يواصل ارتكاب أفعال وخيارات سياسية وعسكرية جعلت سيرته ترتقي إلي مستوي التراجيديات الإغريقية.

كان هذا قدر الزعيم، وكان الزعيم قدر بلد يوشك أن يكون فردوسًا، بنهرين من الماء وبحر من النفط، فانتهي إلي ما رأينا من أوضاع هي الجحيم بعينه.

كان صدام قدر شعب وأمة لم تستطع أن تزحزح حياته أو موته لحظة (خطؤه يا تري أم خطؤها؟) بينما تمكن هو من جرها لألف فرسخ وراء العالم، ولم ينجح في شيء قدر نجاحه في الحفاظ علي وضعيته: معبوداً بالجبر لنحو ربع قرن، ومعبوداً بالاختيار بعد  رحيله!