في حوار لماريو فارجاس يوسا قال كاتب بيرو المفدى ذات يوم “إن للعالم قرينا لايراه إلا الروائيون وهؤلاء مهمتهم إطلاع الآخرين على هذا القرين أوالشبح”. وقد لخص يوسا بعبارته الرطانة التي يرددها الآن كل الروائيين ـ بينما تستطيع قلة منهم تحقيقها ـ حول طبيعة الكتابة الجيدة التي عليها ألا تتبع الحياة، ولكن توازيها، حيث يبتدع الكاتب عالمه الذي ليس هو الحياة وإن ربطته بها علامات قرابة بعيدة. وطبقا لهذه الرطانة فليس من الغريب أن يلجأ الدكتاتور إلى كتابة الروايات، بل الغريب ألا يفعل؛ لأن ذلك لن يكلفه شيئا في الواقع!
كتب أو لم يكتب، فإن كل دكتاتور يخلق هذا القرين للعالم الذي لا يراه إلا هو وآلته الإعلامية، قبل أن يستسلم لقضاء الله أو قضاء أمريكا أو غضب شعبه وإن كان هذا الاحتمال الأخير يبدو مستحيلا وخياليا في ظل تنامي أجهزة الحراسة على الأرض بسرعة أكبر من نمو الغضب في الصدور.
العالم الذي لا يعتد به الروائي والدكتاتور تراه في الشوارع الواقعية للدكتاتوريات الفظة؛ تستطيع أن تلمس الأكتاف المتهدلة وترى الحركة المهزومة المتمهلة حتى من الأجساد الشابة، وتستطيع أن تميز ذلك بأوضح ما يكون في أماكن تستدعي الاستعجال مثل حركة الصعود والنزول من عربات المترووالقطارات، لتدرك كم تفتقد هذه الأجساد للأمل وترى في حركتها البطيئة انعدام الرغبة في الوصول إلى أي مكان.
سوء التغذية وتدني الرعاية الطبية يسم وجوه الشعب الشوارعي بينما يتكاثر أصحاب العاهات الحقيقيون أو مصطنعوا الإعاقة يتسولون من الأقل بؤسا أو يرمون عليهم بضائع تافهة لا نفع منها تسترا وحياء من التسول. وبين شعب كهذا تتزايد حالات الجنون التي تتبدى في الذهول التام عن الأخطار المحيطة والانخراط في الحديث مع النفس بصوت عال، مثلما يتبدى الغضب في العنف المتبادل في الحوارات باللسان أو بآلات تنبيه السيارات المتطاحنة المحتجزة في الأغلب كرهائن لحين مرور موكب الدكتاتور الذي لا يكف عن الحركة.
ذلك الشعب الواقعي الشوارعي البائس يتزايد جنونه عندما يقرأ في صحف الدكتاتور تصريحات الدكتاتور عن جهود الدكتاتور لتحسين مستوى المعيشة لـ (الشعب) وتوفير فرص العمل لـ (الشعب) وإطلاق الحريات في وجه( الشعب) لأن (الشعب ) يتلفت حوله فلا يرى (الشعب) الذي حظي بكل هذه المكرمات. ويكتمل فصام الشعب الشوارعي عندما يقرأ أن الدكتاتور المعروف بالكاد في بلاده هوالمارد الذي يتوازن العالم فوق قرنه الأسطوري، حيث لا يمكن إنجاز التحرير أو الاحتلال في جزر الهاواي بدون جولاته المكوكية ولا يمكن بدون فطنته محاربة سارس في الصين ولا كف أذى كوريا الشمالية عن جارتها الجنوبية الطيبة، ولا أصغر من هذه الأخطار ولا أكبر إلا عاجلها وعالجها؛ فهو الملك العادل الذي لا يستطيع أن يسامح نفسه إن عثرت دبابة أمريكية ببغداد أو مصفحة إسرائيلية برام الله.
وباكتمال جنون الشعب الشوارعي يمتنع عن قراءة صحف الدكتاتور التي ينهار توزيعها، دون ألم لأن الصحف تكتب لقارئ واحد ملهم وليس لذلك الشعب الشوارعي الذي يقاوم الإيمان بحقائق الوجود الكبرى.
موتا يموت وجحيما ليسكن ذلك الشعب الشوارعي غير مأسوف عليه، فإن الدكتاتور ـ وهذه ليست مسبة لأنها تساوي كلمة كاتب ـ قد ابتدع شعبه الآخر؛ شعب الدكتاتور المختار.
ويستطيع من لا يؤمن أن يطالع الوجوه في الحفلة أية حفلة يبثها تليفزيون أي تليفزيون سواء تواجد راعي الحفلة والشعب والتليفزيون أولم يتواجد.
شعب التليفزيون يتلقى تغذية ورعاية طبية جيدة، ويبتسم في إشراقة نادرة للأمل وهي إشراقة طبيعية تخصه هو ولم تجر سرقتها من وجوه الشعب الشوارعي كما يدعي ذلك الشعب!
شعب التليفزيون رائحته طيبة، لأنه يستحم دائما ويستعمل البارفانات الفاخرة، هل يستطيع أحدكم أن يدعي أنه تلقى من الشاشة الرائحة النفاذة التي يلتقي بها في الميادين العامة وإشارات المرور التي يتواجد فيها الشعب الشوارعي عادة؟!
ونساء التليفزيون! لا تحدثوني بربكم عن نساء التليفزيون الرشيقات وشعرهن الذهبي (بفتح الشين وليس بكسرها كما غنى اللواء محمد عبد الوهاب) لا تحدثوني عن عيونهن الزرقاء، ولا عن قوامهن الذي لا يعرف سمنة الفقر المتفشية بين نساء الشعب الشوارعي.
نساء التليفزيون ـ إن عرفن السمنة ـ لا يعرفنها إلا في مواضع الشهوة وخصوصا الشفاة بفضل أطباء التجميل الساهرين بمحاقن السيليكون.
ولا تحاولوا أن تحدثونا عن رجال شعب التليفزيون، فإن أحدا لايكاد يلحظ وجودهم، لأن شعب التليفزيون معظمه من النساء، ومالا يؤنث لايعول عليه هكذا قال ابن عربي وهكذا يؤمن الدكتاتور لكي يكون شعب التليفزيون منتجا للبهجة، وإن شعبا سعيدا، ميسورا، حرا، كشعب التليفزيون على استعداد لأن يفتدي زعيمه المفدى بالروح والدم، روح ودم شعب الشوارع طبعا، بينما تعلمنا التجربة للأسف أن شعب التليفزيون ينقلب مع أول اختفاء للدكتاتور؛ سواء جاء الاختفاء بإرادة الله أوإرادة الرئيس الأمريكي!
ولكن الدكتاتور الذي ينافس الكتاب في إتقان درس الكتابة لايستطيع أن يستوعب درس السياسة ويظل مستسلما للحركة على خشبة المسرح المزود بستارة بحجم الوطن تخفي ذلك الشعب المفتقد للأمل بخطواته المتثاقلة، لكن هذا الاختفاء لا يعني أنه غير موجود.
وسواء جسد الدكتاتور روايته على الورق أو اكتفى بالتلويح لشعبه المتخيل في جولاته المحروسة جيدا تأتي اللحظة التي يكتشف فيها أنه ليس سوى ممثل قام بدور الملك في عرض للهواة، وقف بعده وحيدا في الشارع يستجدي سيارة أجرة تنقله إلى غرفة بائسة على السطوح!