قوة الضحك

نُشر هذا المقال في 20 مارس 2013 في جريدة القدس العربي، ولم تزل قوة الضحك مستمرة، يصح كده؟ إحنا ليه كده؟

هناك شيء مضحك في جوهر السلطة، أو ربما في جوهر الإنسان؛ لأننا لم نر أبدًا السلطة مجردة بلا إنسان يمارسها وبشر تستخدمهم.

وقد يستطيع أبناء المجتمعات التي تعتمد تداول السلطة أسلوبًا أن يكتشفوا الحالة الهزلية التي تنشأ من اجتماع السلطة والإنسان؛ لأنهم يشهدون بسرعة كبيرة تغير الحكام وانصياع المحكومين السريع. في المجتمعات العربية الحاكم لم يزل حقيقة من حقائق الوجود الراسخة كالله والشمس والقمر والزلازل. تسلم مبارك مصر بينما كنت بين المراهقة والشباب ولم يترك سرير الحكم إلى محفة المحكمة إلا بعد أن هرمت. هل مثلي محظوظ لأنه عاش ورأى نهاية ما؟

للفنان محمد عمران
للفنان محمد عمران

هناك ملايين من المصريين ولدوا بعد وصول مبارك للحكم وراهقوا وأحبوا وتزوجوا وأنجبوا ثم ماتوا شبابًا قبل أن يروا نهاية للرجل الذي لا يفنى. وربما يكونون أفضل حالاً من الملايين التي عاشت وأدركت أن الحاكم يمكن أن يتغير، وهذا ليس بالإنجاز الكبير طالما أن الوجه الهازل للسلطة لا يتغير.

كان مبارك ينشد الأمان بالاعتماد على أبناء جيله فحسب، لهذا تأبدت قيادات الدولة معه، حتى رؤساء تحرير الصحف ـ حيث اعتدت أن أعمل ـ لكن الأمر لم يخل من تغييرين كنت محظوظًا برؤيتهما، وكلاهما يوحي بوجود قوة سخرية تختبيء في مكان ما، وتتعمد اتخاذ أكثر القرارات غرابة لتضحك في اللحظة التي تخط فيها القرار، ثم تضحك مجددًا بصوت أعلى وهي تراقب انصياع المرؤوسين وجديتهم في تنفيذ القرار المضحك.

كنت في مؤسسة صحفية شديدة الحيوية، تتيه على المؤسسات الأخرى بكونها معملاً لتصنيع الكفاءات التي سرعان ما تحتل الصدارة في صحف ومجلات أخرى، وكنت أرى أن هذا الفخر نفسه برهان على الخلل، ويشير إلى أن تلك الدار خفيفة تضيق بالفكر والمفكرين، لكنها ـ للحق ـ احتفظت على الأقل بمهنيين على مستوى عال.

في التغيير الأول الذي عاصرته ـ وكنت شابًا ـ تم تخطي كل اللامعين وتعيين عبيط صالة التحرير رئيسًا لتحرير صحيفة توزع مليونًا من النسخ كل صباح. شخص عريض القفا. لم يكن قفًا عاديًا؛ بل لحيمًا يتدلى منه لغد على هيئة درج (جارور) مفتوح، فكان إذا أدبر تحسبه قادمًا وتخشى من انزلاق الدرج وبعثرة محتوياته. ولم يكن هناك الكثير من المحتويات في الرأس كله، ومع ذلك أصر على الكتابة في الصفحة الأولى من الجريدة التي أخذت بالتدهور. وكلما تدهورت أكثر يتحرك بخيلاء أكبر. وبينما كان الأستاذة الكبار يتولون رئاسة التحرير فلا يتغيرون ويمرون بين زملائهم هونًا ويستخدمون ذات السيارات التي نستخدمها، صار لدى الرجل القفا مرسيدس جديدة يلتف حولها الحراس عندما تصل إلى المدخل ويصطفون في حراسته، حتى يصلون به إلى باب المصعد فيستقله نصفهم معه ليرافقوه حتى يجلسوه على مكتبه.

أهداني هذا المشهد عندما نظرت إليه من أعلى فكرة رواية خيالية عن قطعة غائط ترتدي ربطة عنق ويلتف حولها الحراس، لكن الفكرة انتهت إلى سطر في رواية ‘الحارس’ بينما كان زهو القفا يزداد وتزداد معه سلطته باضطراد عجيب، وفي الوقت نفسه تتدهور الصحيفة إلى الحضيض. وعندما صار التغيير ضرورة كثّف مندوبو الوزارات السيادية اتصالاتهم بالوزراء الذين يتعاملون معهم لكي يساعدوهم في الوصول إلى الكرسي، وفوجئت بعبيط الصالة الجديد يسر في أذني: ‘أتلاحظ؟ كلهم يركضون، لكنني حصلت على الوعد’.

كان مطمئنًا الاطمئنان الذي تحسبه لا يتوفر إلا لمجنون. قلت له: ‘قشطة’! تعبير، أتمسح فيه بالشباب، فهو دارج بين اليافعين يصف الشيء الحسن بالقشدة. استخدمت الصيحة هازلاً؛ لكنهم اختاروا العبيط بالفعل. ولم تمض سوى ثماني ساعات على آخر سخرية تلقاها في وجهه حتى تلقى لقبه الجديد ‘الريس’ من الشخص ذاته الذي سخر منه بالأمس.

واختفت السخريات العلنية من المبنى لكنها تحولت إلى عمل سري، وصار الرجل بأخطائه التحريرية المضحكة أشهر من هيكل. ومع ذلك ظل في منصبه حتى أزاحته الثورة، لكن قوة الضحك الخفية وضعت على الكرسي قومًا آخرين يشبهونه، ثم تممت ضحكها بالمنصب الرئاسي، الذي أعاد الصحفي المضحك للكتابة فمدح الرئيس الجديد بنفس ما مدح به مبارك بلا أي تغيير سوى اسم الرئيس!

في المستوى الأعلى من الضحك، لم يتحرك الرئيس الذي يفخر بأنه المنتخب في مكان إلا وأثار الاستغراب، من هرش ما بين الفخذين بين يدي رئيسة وزراء إلى النوم والشخير بصوت عال في مؤتمر القمة. وأما ممارسة السلطة فمضحكة إلى حد الجنون، يتخذ القرار بعشوائية مضحكة وبعدها يلغيه بنفسه أو تلغيه المحكمة فيعود ليلتف على الحكم القضائي بقرار مضحك آخر تلغيه الحشود الضاحكة في الميادين!

هذه ليست الديكتاتورية من النوع المعروف، لكنها تعبير عن استبداد قوة الضحك الخفية التي اتخذت القرار وخلطت الأوراق لكي يصبح ذلك الرجل رئيسًا، وترقب الآن من ركنها الخفي جدية الموظفين في الالتزام بالمهام؛ الحرس يتصرفون كما لو كانوا يحرسون رئيسًا، السفراء يجمعون له الجاليات ليخطب فيها، السفرجي يقدم المشروبات كل صباح. لا يقلل من هذه الجدية رفض طاقم الضيافة على الطائرة الرئاسية تقديم محشي الكرنب، لكن ذلك الرفض لم يرق إلى درجة التمرد؛ فالطاقم لا يستطيع تلبية أي طلب في السماء.

وللأمانة فإن هذه النزوة المضحكة لم يقدم عليها الرئيس بنفسه، بل الرجال الذين يقررون نيابة عنه حتى بشأن ما يقدم على الطائرة من مشروبات ومأكولات. ومثل كل النزوات الرسمية المجهضة، فلن يتزحزح طاقم الطائرة عن موقفه من محشي الكرنب، لأنه موقف عقلاني مدروس؛ فعلى الرغم من وجود محشي ورق العنب على معظم خطوط الطيران، إلا أن استبعاد الكرنب من الوجبات الجوية يبدو احتياطًا أمنيًا ملزمًا، لأن هذا النوع من المحشي ينتج أكبر كمية من غازات البطن لدى الراكب الوقور؛ فما البال مع راكب مضحك لا يتقيد بالإيتيكيت!