كتاب الصورة: أيقونتان للثورة وللسلطة أيقونة واحدة

في الفاصل بين صنعة الله وصنعة الجلاد ولدت أيقونة خالد سعيد
في الفاصل بين صنعة الله وصنعة الجلاد ولدت أيقونة خالد سعيد

جاء مولد إعلام المواطن عبر مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت بمثابة الضربة القاضية لمنظومات العتمة القديمة، وكانت الصورة سلاحه الأبرز.

وقد بدأت كل من الثورتين المصرية والتونسية بصورة تحولت كل منها إلى أيقونة، أغنت الأيقونتان المصرية والتونسية الثورات الأخرى عن اتخاذ أيقوناتها الخاصة.

صورتا المتهم خالد

ــــــــــــــــــــــــــــــ

خالد سعيد، قتيل الإسكندرية تحول إلى رمز لوحشية الشرطة، والفضل الأول في ذلك يرجع إلى أقرانه من المدونين وناشطي الإنترنت، بعد أن أزيل الجدار الرابع بين العالم الافتراضي والواقعي.

رواية الداخلية المدعومة بتقرير الطب الشرعي تقول إن خالد مات باسفكسيا الخنق؛ لأنه ابتلع لفافة بانجو عندما اقتحم عنصران من عناصر الشرطة مقهى إنترنت لتفتيش الرواد.

ورواية الشهود تقول بأن عنصري الشرطة اقتادا خالد خارج المقهى وأخذا في تهشيم رأسه ضربًا على درج سلم العمارة الرخامي. وعندما قال لأحدهما وهو يستعطفه: ستقتلني، أجابه بأنه أساسًا جاء ليقتله!

القصة الآن، بعد الضجة التي قادها الشباب وأهل الضحية صارت عالمية، والرعب كل الرعب في صورتي خالد: صورة الشاب الوسيم بعينين تحتفظان ببريق التطلع إلى المستقبل ونحافة تنبيء عن درجة عالية من الحساسية تجاه الحياة. وصورة لرأس مهشم أهتم الفم بشفاه متورمة ووجه منتفخ في ضعف حجم الوجه الحي.

المسافة بين الصورتين هي المسافة بين جمال صنعة الله الذي خلق خالد على صورته وقبح فعلة القتلة الذين أماتوه على صورتهم. لو حذفنا التهشم والزرقة، يصبح وجه الضحية الميت تمامًا في ضخامة وجه الجلاد، الوجه المعلوف جيدًا، بلا متعة، بلا حب، بلا قدرة على الأحلام.

هذه المقارنة التي حولت خالد سعيد أيقونة لم تكن ممكنة لولا إصرار شقيق الضحية على تصوير جثة شقيقه، وحسب المدون والناشط السكندري فقد منع الأمن الاقتراب من المشرحة، لكنهم ارتكبوا غلطة تركها بلا حراسة بعد منتصف الليل؛ فتمكن شقيق المتهم من الدخول وتصوير الجثة، كما أن صورة خالد قبل الموت بالبراءة التي تجللها ملتقطة قبل سنوات من لحظة قتله.

خالد سعيد، قُتل في يوليو  2010 وبدأ مجايلوه في تأسيس صفحته على الفيس بوك «كلنا خالد سعيد» وشاركتها في الاحتجاج مجموعات أقدم مثل مجموعة 6 أبريل، وهي المجموعة التي تؤرخ لنزول  الشباب من العالم الافتراضي إلى الواقعي عندما قادت أحداث الاحتجاجات العمالية في مدينة المحلة الكبرى عام 2008 وهي المرة الأولى التي ديست فيها صورة مبارك بالأقدام.

وقبل 25يناير، قاد الشباب حركات احتجاج على مقتل خالد سعيد،  كان أعظمها مشهدًا يوم تجمع عشرات الآلاف بطول كورنيش الإسكندرية وقد ارتدوا السواد وأعطوا وجههم للبحر، للأفق المفتوح، وظهرهم لليابسة، حيث يعشش حكم الخوف الذي يجب أن يزول.

في ذلك اليوم رسم الشباب المصريون الشكل الذي ستأخذه ثورتهم السلمية والأكثر تحضرًا في تاريخ الثورات، حيث التعالي على روح الثأر وحيث الحفاظ على مؤسسات البلاد التي سيتسلمونها يومًا ما بعد رحيل نظام يعيش في عزلته وعالمه الافتراضي المغلق.

جسد وروح خالد سعيد صادرهما الأمن، بعد أن صادر النظام أحلامه وأحلام أمثاله من أبناء الطبقة الوسطى، الذين يتلقون تعليمًا جيدًا ويجدون أنفسهم عاطلين بعد ذلك؛ لأن البلاد موقوفة لحساب حفنة مليارديرات.

البوعزيزي..كتلة النار التي أشعلت تونس قبل أن يبدو لها وجه
البوعزيزي..كتلة النار التي أشعلت تونس قبل أن يبدو لها وجه

الأيقونة التونسية

ــــــــــــــــــــــــــ

محمد البوعزيزي، أيقونة الثورة التونسية يشبه خالد سعيد ويختلف عنه بقدر ما كان النظامان البائدان يتشابهان ويختلفان.

البوعزيزي تخرج في الجامعة ووجد نفسه بائعًا جوالاً في الشارع، لكن السلطة لم تدعه فلاحقته الشرطية بالإهانة من دون أن تقتله، لكنه أقدم بنفسه على التخلص من جسده المصادر بالحرق. والصورة الأولى للبوعزيزي لم تكن صورة وجه ـ كما في حالة خالد سعيد ـ كان الفتى التونسي جسدًا مشتعلاً في لحظات تقوضه وسط النيران، بعد ذلك اتخذ الجسد المحروق وجهًا؛ حيث تسابقت الفضائيات للبحث عن الملامح، وبدأ نشر البورتريه أثناء  حوارات مع أفراد أسرته.

وهنا يتبدى الاختلاف بين الأيقونتين. خالد سعيد ابن ثقافة الفرد صودرت حياته عنوة، والبوعزيزي ابن الجموع التي بلا ملامح، تُسرق حياته يومًا بعد يوم، وفي لحظة تعاظمت فيها السرقة قرر أن يتخلص من جسده ليحرم الجلاد من التمادي في إهانته.

وقد أحس الفقراء المصريون بأنهم أقرب إلى البوعزيزي منهم إلى خالد سعيد؛ فاندفعوا في محاكاة البوعزيزي وتوالت عمليات حرق النفس أمام البرلمان والأماكن المشهورة إعلاميًا، وعلى كثرة هذه الأحداث لم يثبت وجه واحد في ذاكرة الجمهور، ولم تتزحزح صورة خالد سعيد.

النظام من جهته لم يقصر في تسخيف عمليات الاحتجاج بحرق النفس،  وعمد إلى تشويه أصحابها على طريقة التجريس المملوكية؛ فهذا أشعل النار في نفسه لأن امرأته طلبت الطلاق، وذلك لأن ابنته اختفت مع عشيق ويحتج على إخفاق الشرطة في الوصول إليها، كما كانت الفتوى جاهزة بتكفير من يقتل نفسه.

وفي الوقت ذاته لم تصادف محاولة استنساخ الأيقونة التونسية تجاوبًا مع الشباب المتمسك بأيقونته الأصلية؛ فخالد سعيد كان يريد أن يعيش، وهم يحتجون لكي يطهروا مصر لتكون حياتهم أفضل، لا لكي يموتوا.

وهكذا تم التخطيط للخروج يوم 25 يناير لاستعادة روح مصر التي يحلمون بها.

خزينة زين العابدين بن علي قي قصر سيدي الظريف أيقونة السلطة
خزينة زين العابدين بن علي قي قصر سيدي الظريف أيقونة السلطة

الشراهة أيقونة السلطة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

السلطة على خلاف الثورة لم تعثر على أيقونتها الخاصة من البداية. هناك الكثير من اللقطات لوجوه السلطة التي ركزت عليها إشارات الفضائيات، مثل ارتعاشة زين العابدين «فهمتكم» وتنغيمية مبارك المفرطة في الاطمئنان:«لم أكن أنتوي الترشح» أو الصورة الباسمة التي انتشرت على الفيسبوك تسأل عن الرجل الواقف خلف عمر سليمان.

لم يعمر وجه أو قفا ليكون أيقونة للسلطة الزائلة، ربما لأنها بطبعها تفتقد الوجه الإنساني؛ فكان من العدل أن تبقى بلا وجه. وكان لابد لأيقونة السلطة أن تأتي متوافقة مع طبائع الاستبداد العربي الجديد؛ الاستبداد الاقتصادي المحروس بالعنف الأمني.

وقد وجدت السلطة أيقونتها في تونس بعد نجاح ثورتها والثورة المصرية. ولم تكن تلك الأيقونة سوى غرفة المضبوطات في قصر زين العابدين بمنطقة سيدي بوسعيد؛  غرفة تشبه مغارة علي بابا، بما حوت من سبائك وساعات يد وأوراق نقد من كل الفئات والعملات.

ما حاجة الإنسان في جيل أو جيلين أو ثلاثة لكل هذه الكنوز؟

من أين سيأتي بالوقت الذي سيرتدي فيه كل هذه الملابس ويأكل فيه بكل هذه الأموال؟

وهل يمكن للعمر أن يتضاعف إذا ما تم حسابه على هذا العدد المخيف من الساعات؟!

أسئلة ستعجل بساعة كل نظام يتحاشى الإجابة عنها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رابط خزائن ابن علي السرية: