أبدأ من اليوم نشر كتاب مسلسل بعنوان مبدئي “عين الثورة” أجتهد فيه بتقديم قراءتي في صور استوقفتني، وهي محاولة لكشف ما تقوله الصورة ربما رغمًا عنها، ومعظم ما سأتناوله هنا له علاقة بمقدمات وأحداث الربيع العربي المغدور الذي تعرض لخطة جهنمية غيرت مساره من تطلع مشروع للحرية إلى إرهاب وفوضى لم تعد تستثني مكانًا في العالم. لكن هذه الهزيمة للربيع ليست سوى الجولة الأولى من حرب طويلة بين حلم الشعوب من جهة ومن الجهة الثانية شبكات المصالح المحلية في كل بلد مع الشبكات الإقليمية والرأسمالية العالمية.
في البدء كانت الصورة.
كتابات ما قبل التاريخ على جدران الكهوف كانت محض صور. وقد تمكنت البشرية من بناء حضارات شديدة التطور والتعقيد كالفرعونية من خلال التواصل بلغة من الصور قبل أن يتحقق الانتقال من التشخيص إلى تجريدية الأرقام والأبجديات البسيطة.
ولم يزعزع التجريد مكانة التشخيص في التواصل بين البشر، وظلت الصورة مجالاً للبحث الفلسفي منذ فلاسفة اليونان إلى فلاسفة وعلماء نفس وعلماء اتصال العصر الحديث. وتراوحت الدراسات بين تحليلية سقراط وأمبرتو إيكو وبين انتقادية علماء الاجتماع اليساريين الذين رأوا خطورة الصورة في كونها تقوم بتأثيرها المباشر على الشعور دون حاجة إلى الإدراك العقلي.
وبين هذا وذاك هناك تبسيطية وتضليل خبراء الإعلام في مقولة “الصورة لا تكذب” التي قد تكون أكبر المسلمات خطأ في تاريخ الفكر الإنساني، حيث لا تنقل الصورة الحقيقة أبدًا بل تنقل جزءً أو تصورًا عنها. وذلك الجزء المنقول يتلقاه مشاهدون مختلفون لديهم قدرات بصرية وانحيازات عاطفية وعقلية سابقة على الصورة.
وقد نالت الصورة أهميتها الكبيرة خلال أكثر من قرن تطورت فيه العلوم الإنسانية بصورة كبيرة منذ نزلت الفلسفة إلى الأرض وتمازجت مع بناتها من العلوم الإنسانية: الاجتماع، النفس، اللغة، والتاريخ، كما استفادت الكتابات الأدبية والفكرية من تلاقي المناهج التي تدرس الأنساق البصرية مع مناهج دراسة الأنساق اللغوية وتزاوج الإبداع مع التنظير في كتابات تضع قدمًا في بستان الإبداع وأخرى في حقل الفكر. ووسط كل هذا كانت الصورة بكل ما تحمل من عناصر الجمال والإخبار والفكر عنصرًا مهمًا في محاولة فهم العالم.
وإذا ما تركنا فيض المؤلفات الفكرية “عن” الصورة هناك فيض من الكتب “في” الصورة؛ حيث تمثل كتب الفوتوغرافيا فرعًا مهمًا من فروع صناعة النشر في الثقافات الأخرى. بعض الكتب لا يتضمن نصوصًا أكثر من سطر يشرح الصورة ومناسبتها وبعضها لا يتضمن سوى اسم المصور وبعضها يتضمن نصوصًا قصيرة مصاحبة توازي محتوى الصورة أو تشرحه. وبعض هذه الكتب يعتمد التصنيف الزمني لصورها، حيث نجد السلاسل التي تقدم أهم صور عقد أو قرن من الزمان وبعضها مصنف موضوعيًا؛ كأن يُعنى كتاب الفوتوغرافيا بالحروب أو بالموضة أو الجسد أو بورتريهات المشاهير.
وتبدو صناعة النشر العربية شديدة الفقر في هذا الباب. وربما يذهب التفسير الأبعد لندرة كتب الفن التشكيلي والفوتوغرافيا إلى إدانة الثقافة العربية، بوصفها ثقافة نص، أو ثقافة “أذن” لكن هذا التفسير لا يمكن قبوله بسهولة، لأن الثقافة العربية ابنة حضارات بصرية عريقة كالفرعونية والآشورية. ربما يكمن هذا الإملاق في صعوبة نشر هذا النوع من الكتب الذي يتطلب مواصفات فنية عالية، لا يمكن تغطية نفقاتها في ظل تدني أعداد القراء.
وأيًا كان السبب؛ فالنتيجة أننا أمام حقيقة ندرة الكتب العربية “عن” و”في” الصورة. وهذا بحد ذاته محفز للمحاولة.
وليس من بين هموم هذا الكتاب تقديم إسهام نظري حول الصورة، بل تقديم قراءة للدلالات السياسية والاجتماعية لصور محددة بوصفها علامات مرئية تشير إلى نفسها وإلى ما يقع خارجها.
وقد تصالح الباحثون في مجال علامات الأنساق البصرية على أن مصطلح “صورة” يشمل، إلى جانب الفوتوغرافيا، السينما والمسرح والنحت والرسم، ومقاطع الفيديو. وهذه الأخيرة تم الاعتماد عليها كثيرًا في هذا الكتاب، نظرًا لتشعب الموضوعات وصعوبة الحصول على الصور الفوتوغرافية وحقوقها عبر مساحة واسعة من جغرافيا الثورة العربية.
وليست الصورة مجرد شاهد محايد، بل كانت عملاً ثوريًا مشاركًا في التغيير. لا يوجد إحصاء بعدد المقتولين في ظلمة أقبية التعذيب خلال السنوات الأخيرة من حكم مبارك، لكن الصورة جعلت مقتل خالد سعيد مختلفًا عن أي موت، الأمر نفسه يقال عن محمد البوعزيزي أيقونة الثورة التونسية. وإذا كان الثوار أسبق في الانتباه إلى سلاح الصورة؛ فقد تنبهت الأنظمة منذ اللحظة الأولى لاندلاع ثورة تونس مرورًا ببقية الثورات العربية إلى ذلك السلاح وحاولت استخدامه قدر طاقتها كذلك.
الكثير من نصوص هذا الكتاب نُشر في هيئته الأولى قبل 25 يناير وبعدها في صحيفتي: “المصري اليوم” و” القدس العربي” ومجلة “الدوحة” الثقافية. ولكنني أعدت العمل عليها لتخليصها من الإشارات التي لا تناسب النشر في كتاب.
ولست متأكدًا مما يمكن أن يساهم به هذا الكتاب في فهم نجاحات وإخفاقات ثورة يناير 2011. كل ما أعرفه أنني أمضي في طريق سبق أن مشيته في “الأيك” و”كتاب الغواية” و”ذهب وزجاج” وهي أنواع من الكتابة خارج التصنيفات المعروفة، بدأتها منقادًا تمامًا للمتعة الذاتية، قبل أن يولد في قلبي نزوع إلى محاولة توسيع موضوعات ثقافتنا التي تضيق يومًا بعد يوم، بينما تتسع ثقافات الآخرين.