لا أمسِ يدركُها ولا غدٌ قويٌّ كفايةً يأخذُها إليه

جرافيتي على الجدار
جرافيتي على الجدار

 المقاطع من السابع إلى الثاني عشر، من الديوان القصيدة “جهات هذه المدينة للشاعر وليد خازندار، الشعر في صيغة أنقى.

7

غيومٌ رماديةٌ تستردُّ هيأتَها. ضوءٌ من الحرّاقاتِ يكشفُ وجهَ البحر. الطيورُ خلف وثباتِ الموجِ الهادئة. غِناءُ الصيّادين يعلو. يغيِّرونَ وِجْهةَ الكلام.

تلتفتين إلى جهةِ منازلِ الشاطئ. الضبابُ الخفيفُ يجعلُ الشرفاتِ تحلم. ربما لأنها خواطرُ في الأصلِ وردتْ في خيمةٍ. الذين لجأوا إلى ما تبقّى خيَّموا هُنا على عَجَلٍ واحتموا بالعاصفة. دارت بهم سنواتُهم وحلموا.

تنظرين إلى شرفةِ الدارِ الصغيرةِ بين البيوتِ التي تتساند. قميصُ نومِكِ منسيٌّ على الحبالِ أمام الموج. بعيدٌ وصغيرٌ يلعبُ الهواءُ بِهِ. ربمَّا لأنهُ لعروسةٍ.

“يكونُ الآن يُخَلِّصُ الصباحَ من الليلِ قبل أن يغادر. يغلي نصفَ القهوةِ المتروكِ مِنّي في الركوةِ المغطاةِ بصحنِ فنجاني. تقفزُ الإذاعاتُ بين أصبعيه. أعودُ قبل أن يرجع. تكون يدُهُ مَرَّتْ على غيابي. أعادتْ إلى مكانِهِ كُلَّ ما تاهَ من يديَّ، رتَّبَتْ صيغتي مثلَ أوَّلِ ليلة.

“يظل يزعلُ مِنّي. أظل أنسى قميصَ نومي على الحبالِ المكشوفة. أصالحُهُ في سُرعةٍ ويرضى. تعالَ، أقولُ لهُ، أنا العروسُ الملكةُ، أنتَ عريسي. أُطلبْ يدي، خذني إلى الشرفةِ، لُمَّ قميصَ نومي فأصحو، أصيرُ مواطنة.”FullSizeRender (14)

 

8

 

زوبعةٌ تبيتُ إلى شِمالِهِ، تحلمُ أنها عاصفةٌ عند الفجر. حين ترتِّبين فوضاكِ أحياناً قبل أن تغادري لا يعودُ يرى يديكِ الشاردتين على الأشياءِ، تداهمُ الدارَ وحشةٌ.

صيغةٌ وفوضى. أَساوِرُ، أقراطٌ وخواتمُ لا تلبسينها، هُنا وهناك. صينيةٌ وركوةٌ مُغَطّاةٌ بصحنِ فنجانِكِ على نصفِ قهوتِها على طرفِ الطاولة. بنطالٌ وشالٌ وسلسلةٌ على أكتافِ الكراسي. العروسةُ القماشُ تنظرُ إلى البابِ في طيبةٍ غريبة.

قميصُ نومِكِ منشورٌ أمام الكون. كم قال لكِ إنَّهم لا يحبّون هذا هُنا. أَنكِ جميلةٌ وشاحبةٌ، صافنةٌ غالباً، ينزلُ على عينيكِ شَعرُكِ، ترفعينهُ في التفاتةِ مهرةٍ، لا يعني هُنا أن تفعلي ماتشائين.

تعوَّدَ من أوَّلِ نظرةٍ عليكِ. كان في خطوِكِ بين الناسِ، تحت الشعاراتِ، ما سوف يصبحُ من أوصافِكِ؛ توجُّسُ الطريدةِ، رشاقةُ المحارِبة.

رأى في عينيكِ قلبَكِ مكشوفاً مُهَدَّداً. في وجهِكِ ما صارَ من قسماتِهِ؛ توتُّرُ كرمةٍ في تأخُّرِ المواسمِ، انشغالٌ إلى آخِرِ العناقيد.

 

مشدودةٌ إلى صيغةِ الجمعِ بين الهتاف. للناسِ معجزةٌ يوميَّةٌ هُنا. نهارٌ دون رأفةٍ مشغولون فيهِ بأحلامِهم. أهلُ بحرٍ لم يبق لهم من الأفقِ إلّا أن ينظروا إليه. لهم مهاربُ في الأرضِ من أجلِ أن يبقوا عليها.

 

9

ينشرون في صحفِ الهواء.

كلامُهم كبيرٌ وليسوا خائفين

صيغةٌ قَطْعٌ لما قيل في رخاوةٍ قبلهم.

 

غِناءٌ بشفاهٍ ناشفةٍ

كناياتٌ قريبةٌ

يدركُها كُلُّ عابرٍ من مجازاتِهم.

 

من لازمةٍ في وقتِها

لا تعودُ الأيامُ الخفيضةُ أيامَهم

أصواتُهم تعلو.

 

الأشجارُ آنها في عملِ السرِّ

النسغُ في كأسِ الثمارِ المحجوبة.

غِناءٌ بجروحٍ كثيرةٍ

ماءُ زهرٍ وماءُ نار ـ

المعاني مرميَّةٌ في الشوارِعِ

الوصايا على الجدران.

 

عيونُهم على الحدائقِ

وراءَ ما يؤلمُ

ينظرون مباشرةً إلى صميمِ الضوء.

 

 

 

10

 

نورٌ من الصحراءِ قبل الشمس. تلمعُ دُكْنَةٌ على أغصانِ النخيلِ قرب المنازلِ، على أطرافَ المراكبِ الصغيرةِ أمام الموج.

 

يتوقَّفُ الصيّادون بين المطالع. يلتفتُ واحدٌ منهم إلى الميناءِ القديم. هل يرون المراكبَ المحجوبةَ لكنهم يسكتون عنها. أيعرفون أنها في انتظارِكِ، لكنكِ لا تريدين أن تغادري. تلتفتينَ إلى شرفةِ الدارِ الصغيرة.

 

“ينظرُ في الليلِ إلى البحرِ، يصغي إلى السماء. في خواطرِهِ مراكبُ لا تغادرُ، سفنٌ لا تصل.

 

“ينظرُ إليَّ وأنا نائمة. يردُّ ملاءةً قد انحسرَتْ عنّي ثانيةً. تَمُرُّ أصابعُهُ في خفَّةٍ على حاجبيَّ، أرى هذا في منامي ولا أخبرُهُ. أريدُ أن تبقى يدُهُ عليَّ من أسراري، نظرتُهُ حجابي من مكائدِ الليل.”

 

تعوَّدْتِ من أوَّلِ نظرةٍ عليه. كان في خطوِهِ بين الناسِ، تحت الشعاراتِ الكبيرةِ، عُزْلةٌ لا تخطؤها عينٌ خبيرةٌ بالمسافات. في صمتِهِ وسطَ الهتافِ جهامةٌ لا تصدِّقُها القلوبُ التي جرَّبَتْ.  رِقَّةٌ شديدةُ الصهرِ حين يلتفت.

 

أردتِ أن تنخطفي آنها بفديةٍ لا يستطيعُ أن يدفعَها أحد. أن تدُلّيهِ على مهاربَ بكِ لن يهتدي إليها دونكِ. لكِ قَصْرٌ مَلَكيٌّ هُنا لهُ نفقٌ إلى البحرِ لا يعرفهُ إلّا أنتِ. يستأنفُ الصيّادون الغِناء.

 

 

 

 

11

 

أحلامُكِ عالية. تنامين بينما تكلِّمينَهُ ثم تغيِّرينَ الكلام. حجراتٌ كبيرةٌ وردهاتٌ وناسٌ تأمرينهم في رِقَّةٍ. تقولين أضيئوا القصرَ كلَّهُ، افتحوا النوافذَ التي على البحر. لماذا هو ساكتٌ هكذا.

 

يرى قلبَكِ في كلامِكِ مكشوفاً مُهدَّداً مثلَ المدينة. لا يغفو حتّى تلوذي بصدرِهِ؛ الوِجهةُ التي اختارها اندفاعُكِ.

 

صوتُكِ في المنامِ نفْسُهُ وأنتِ يقظى. سارحٌ، طاغٍ، خفيضٌ. يستأنفُ المعاني ويتركُها ويبدأُ من جديد. قليلُ الصبرِ، مستعجلٌ من كثرةِ انشغالِهِ، يغلي.

 

لكِ صخرةٌ على الموجِ أيضاً في كلامِكِ. فجرٌ ورملٌ وصيّادون في الغِناء. أولادٌ وبناتٌ وحاشيةٌ، وصيفاتٌ وحرَسٌ وأبراجٌ تذكرينها على كُلِّ الجهات. يجيءُ ما تخافينَهُ كُلَّ منامٍ إليكِ. أَغْلِقوا بابَ الصحراءِ، تقولين فجأةً، أَغْلِقوا الأبوابَ كُلَّها.

 

تكملين صحوَكِ في المنام. تستيقظين على مدينةٍ تحلمُ. مسروقةٌ من أيّامِها وأيّامِكِ، مرميَّةٌ في الزمان. لا أمسِ يدركُها ولا غدٌ قويٌّ كفايةً يأخذُها إليه.

 

 

 

12

 

لا يكملُ الصيّادون أغنيةً ولا ينتهون من الغِناء. تنفتحُ أصواتُهم على الكون. في النبرِ صيحةٌ كتيمةٌ موزَّعةٌ دون عدلٍ بين المقاطع. ينظرون إلى السماءِ، في ضبابٍ خفيفٍ، كأنهم يحلمون.

 

“أكلِّمُهُ عن مدينتي قبل أن أنام. يقودُ كلامي موكبي إليها. الأبوابُ عاليةٌ أمام الجهات. تلتفتُ الشوارعُ إلى الدروب. تنحني إلى السوقِ المسقوفةِ من أجلي. الناسُ لا يكترثون. ملكةٌ منذ زمنٍ بعيدٍ تمرُّ في شوارعِهم. أحياناً ترسلُ عيونُهم إليَّ صباحَ خير.

 

“أغفو إلى قصري. حاشيتي صغيرةٌ وحرَسي قليل. لا يرفعون عيونَهم عَنّي، أرى فيها قلوبَهم. الفجرُ، غزالي وشَرَكي، يناديني. أقولُ إفتحوا الأبوابَ طيلةَ النهارِ، إفتحوا حدائقَ القصر. البناتُ والأولادُ يدخلون قبل الجميع. الصيّادون، صانعو الراياتِ، كلُّ من يحفظُ أغنية. إفتحوا شرفاتِ البحرِ، إفتحوا النوافذَ التي يتحدَّثُ منها إلينا. أضيئوا قاعةَ العرشِ في المغيبِ، أروقةَ القصرِ كُلَّها، الممراتِ الطويلةَ إلى أجنحةِ نومي.

“متى ينتهي البناؤون من معبري إلى الفجر. لماذا يقطعُ الصيّادون غِناءَهم وأسمعُ أصواتَهم تصغي. هل يرى الجنودُ مراكبَنا المحجوبة. من يتربَّصُ بي في عتمةِ الأروقةِ، أين قائدُ الحرس.

 

“أصحو. شمالي على صدرِهِ يمينُهُ عليَّ، مطمئنَّةً بين البيوتِ المكشوفة. أنشَقُّ منهِ في خِفَّةٍ كي لا أوقظُهُ. نومُ المُطارَدِ نومُهُ، نومُ الجميعِ هُنا.”