لماذا لا يبني المستبدون الفنادق بدلاً من السجون سيئة السمعة؟

 

أناقة تنتظر اللاأحد ومعها الوحشة
أناقة تنتظر اللاأحد ومعها الوحشة

 في رواية “وداعا أيها السلاح” يحمل هيمنجواي ضابطه الهارب من الحرب إلى فندق في الشمال الإيطالي. وفي الغرفة الفسيحة المطلة على البحيرة وبين ذراعي الممرضة البريطانية العاشقة كان من الطبيعي أن يشعر الضابط الأمريكي أنه في بيته، وهو إحساس طبيعي لرجل منتشل من أوحال الحرب المرعبة، ومع ذلك لم يكن الفندق بيتًا أبدًا، فلم يهنأ العاشقان بهذا الإحساس النادر حتى طرق رجل البار الباب وأخبره بأنه مهدد بخطر الاعتقال، حيث سمع بالمقهى من يتحدثون عنه، فاضطر الضابط إلى حمل حبيبته مع حقيبتين للهرب إلى سويسرا مجدفًا طوال الليل عبر البحيرة الباردة.   

وإذا تغاضينا عن الكارثة التي انتهت بها تلك الإقامة تبقى أيام هناءة استثنائية مسروقة من عمر البؤس الذي أكره الأوروبيون العالم عليه في حربهم الثانية، بينما كان بوسع الضابط ذاته لوكان قادما من بيته أن يتنبأ بانهيار المنظومة الاشتراكية حتى في ذاك الزمن الذي صادف شباب الشيوعية. وبالمثل يمكننا أن نتنبأ بسقوط ديمقراطية التسليع الفظة وكل ما يستجد من أنظمة تدفع الناس إلى التشابه، ولا يتطلب الأمر سوى إقامة بضع ليال في فندق وقليل من الخيال ليصل المرء إلى تلك النتيجة!

ولو أن هناك ديكتاتورًا حصيفًا لبنى لمعارضيه عددًا من تلك الفنادق بدلاً من السجون سيئة السمعة والمدانة من قبل منظمات حقوق الإنسان، لكن لسوء الحظ أن هذا الديكتاتور غير موجود، لأنه لو تمتع بالحصافة ما بقي ديكتاتورًا أصلاً. ولهذا تجري الأمور دائمًا على نحو واحد: الديكتاتور يدفع ببعض الناس إلى السجون، بينما يذهب البعض الآخر بمحض إرادتهم إلى الفنادق الفاخرة التي لا تختلف عن السجون إلا بغياب الجلاد!

الفنادق تشبه السجون في ملمح آخر؛ فكلاهما أماكن ارتحال حتى لو طالت الإقامة فيها. وباستثناء ندرة ممن يفتقدون الأسرة ويجدون المال فيقررون الإقامة الدائمة في تلك النـزل لا يقطن الناس الفنادق في مدن عيشهم الأصلية، وإنما في حالات السفر.

وتمثل الفنادق واحدًا من عناصر التشويق باللقاء مع المجهول الذي توفره حالة السفر عموما، حيث يخلق الارتحال إثارة تتولد عن الاحتكاك الخفيف بالموت (الألعاب الخطرة في مدن الملاهي تقوم على الفكرة ذاتها) لكن الإقامة الفندقية تحقق نوعًا من المتعة الغامضة بتوقع شيء جميل، وليس هناك من تقوده المصادفة إلى أحد الفنادق ويضحي بحقه في الحلم بمغامرة عاطفية. وهذه حقيقة يعرفها الروائيون الذين ينزلون ضيوفا على مستعمرات الخفة تلك. و لأنهم ألطف بالناس من أنفسهم، فإنهم لا يحملون أبطالهم إلى مستعمرات الوحشة إلا في أوقات الضرورة القصوى؛ عندما لا يكون هناك بيت.

دائما هناك إحساس مخادع بالخفة في البداية، لكن سرعان ما تولد الوحشة الحقيقية. وبين القلائل الذين غامروا بوضع أبطالهم في فنادق، ليس هناك من وصف الهذيان العاطفي لحالة انتظار المرأة الحلم مثلما فعل هنري باربوس في روايته “الجحيم” حيث وضع بطله الريفي في إحدى غرف نزل لومرسيه، وكأي روائي يجيد ترتيب المصادفات المثيرة  لقرائه فتح باربوس ثقبًا في الحاجز بين الغرفتين وأزال قطعتي قرميد من مكانهما ليوفر لقرائه متعة مراقبة الشاب مقطوع الأنفاس أمام تجلي الحقيقة المطلقة والمعجزة الحية الوحيدة على الأرض في هيئة امرأة تتحرك في الغرفة المجاورة تحت عينه المتلصصة!

أدمن البطل الريفي التلصص وكان مثل مستكشف يصف لعصابة القراء تحركات الضحية والموقف في مسرح الجريمة:حركة شفتيها بلحن أو ذكرى منسية، ميل عنقها شديد البياض ليغرق في منطقة الظل، حركة ساقيها وانعكاس وهج نار المدفأة عليهما، لون فستانها الفاتح الذي تشرق به النساء في الربيع، انحساره إلى أصل الوركين، ثم تخليها عن الثوب كلية، وانكشاف الثمرة وسط شق من العتمة العارية تحت اللباس الداخلي الرقيق كغيمة من البخور. ومع هذه المطاردة المحمومة للمرأة من عين الرجل المستوحش يكشف هنري باربوس عن الأصل النفسي لذلك الانتعاش الحسي الفندقي، والذي يصلح أساسا لتفسير سيكولوجية الاصطياد، حيث المرأة المجهولة دومًا هي الصورة الأنقى للمرأة التي نشتهي، المرأة التي لم نعرفها بعد بكاملها، والتي سنتخلى عنها يومًا، عندما لا يصبح لديها ما نجهله!

 

هذيان العين المراقبة التي تعبد الجسد المجهول الغارق في الظلال الملونة لا يشبهه إلا هذيان العيون المؤمنة في مواجهة وهم الرفات المكتمل لقديسين يغوصون تحت الإضاءة الخافتة الملونة في عتمة الأضرحة، مع فارقين مهمين، فأجساد القديسين تمنح المؤمنين السكينة، بينما لم تنل عين البطل الشاب من معبودته المجهولة سوى القلق، كما أن القديسين لا يغادرون أضرحتهم، بينما غادرت المرأة وحرمت متعبدها من توتره، وكان على العين المشتهية أن تتحول إلى عين حاسدة بعد أن احتل الغرفة رجل وامرأة معا.

لا يحتاج أي نزيل فندقي إلى وقت طويل كي يدرك أنه مثل بطل الجحيم ومثل كل نزلاء الغرفة السابقين، ليس أمامه إلا أن يقوم بالحركات اليائسة ذاتها بين باب الغرفة والشباك، ومراقبة الآخرين لأن المغامرة العاطفية التي ينتظرها لا تجيء إلا إذا ذهب بسندويتشه معه.

في عديد من المدن الإسلامية التي تضم ملايين العمارات يقطنها بشر حريصون على عفة جيرانهم يصعب على المرء تناول سندويتشه في بيته، الأمر الذي يجعل من فنادق النجوم الخمس أماكن مناسبة، توسع من إمكانية اللقاءات الغرامية خارج علاقة الزواج، ولكنها في الوقت نفسه تذكِّر بحقيقة غياب الحرية، فهذه البناءات المنتعظة في أرحام المدن الإسلامية تعامل بوصفها مستوطنات غربية، لا يُسأل السائح الأجنبي فيها عما يفعل، بينما لا يستطيع المواطن ممارسة حريته بها إلا بفضل قدر من التواطؤ يُذكِّره دائما بهشاشة موقفه، كما إنها بتكلفتها المرتفعة تشهر معنى طبقية الحرية، حيث لا يستطيع المرء أن يتصرف بذات الحرية في البنسيونات الرخيصة التي تخضع للصرامة التطهرية للشرطة والعاملين فيها.

تلبي الفنادق مع ذلك حاجة المتعبين إلى الراحة. وتشبع رغبتين مختلفتين تمامًا: الفوضى والنظام، وهي لعبة غاية في الطرافة لمدة محدودة، حيث يرضي الإنسان نزوعه إلى الهدم فيبعثر أشياءه ويقلب رأس فراشه على عقبه، ويغيب قليلا ليعود فيجد الغرفة وقد أعيد بناؤها على أحسن ما يكون البناء!

لكن سرعان ما يكتشف المرء صعوبة الجمع بين ميزة وجود اليد الغريبة التي ترتب أشياءه وبين الاحتفاظ بأسراره الحميمة. وأن جدلية الفوضى المحكومة بحدود الغرفة والنظام الواحد تفقد إثارتها.

بعد يومين أو ثلاثة يبدأ السجين الفندقي في الحنين إلى أسرته وإلى عاداته الحميمة؛ حيث لا يمكن للغرباء أن يكونوا أسرة بديلة، ولا يمكن للقهوة المتاحة للجميع أن تكون قهوتك أنت بالذات؛ حتى لو تيسرت مصادفةٌ نادرةٌ طابقت طعم القهوة الفندقية مع طعم قهوتك فإنك لن تجد معها عاداتك الحميمة:المكان الذي تتناولها فيه، الصحيفة، التي تقرؤها أو الإذاعة التي تستمع إليها، ربما الصوت المفضل الذي تبدأ به يومك (بالنسبة لي لا تكون قهوة الصباح قهوة بغير صوت فيروز أو محمد عبد المطلب وهذا تذبذب حاد في المزاج لا أدري له سببًا).

الأكل الفندقي عذاب آخر، وهذه الحقيقة لا يحتاج المرء لمهلة اليومين أو الثلاثة لاكتشافها، ففكرة البوفيه المفتوح التي يتصورها مخترعوها وسيلة لإشهار الحرية هي في الحقيقة دلالة مؤكدة على الإهمال وقلة العناية بهذه السائمة الفندقية التي ترعى حشائش المطعم.كما أن ذلك الطعام المحايد المعد أساسًا للا أحد، يمكن استخدامه كحمية مضمونة النتائج إذا ما فشلت الوسائل الأخرى في إقناع النهمين بالتقليل من هذه العادة السيئة. يكفي أن تقدم لهم وجبات فندقية لأكلاتهم المفضلة كي يقلعوا عن تناولها إلى الأبد!

في الوقت نفسه فإن دعوة على غداء من هذا النوع توفر اختبارًا مؤكدًا لشريك الحياة في المستقبل، فإذا أقدم أحد الطرفين على الأكل بنهم ينبغي على الآخر التمسك به، لأن ازدراد الطعام الفندقي بشهية كاملة دليل مؤكد على الافتقار إلى حاسة التذوق، ولا يمكن لمن يفتقد حاسة أساسية أن يمتلك حاسة سادسة تزعج الطرف الثاني بملاحقة خياناته في المستقبل!

 

بعد أو قبل أن يفتقد الإنسان عاداته الحميمة وثقته في حواسه التي نمت بدأب عبر علاقاته مع  أكلاته ومشروباته وأماكنه المفضلة يكتشف أنه افتقد ما هو أهم:نفسه! حيث ينتبه الإنسان الذي اعتاد نوعًا من التوازن بين ذاته والعالم، إلى أن الحالة الفندقية أوقعته في تباين مخيف بين سرعة الوجود في الخارج وبطئه في الفندق. عبر المرآة الفندقية يتلقى أخبار الكوارث مشوشة: إما مبسطة وكأنها لا تحدث إطلاقا، أومفزعة ومعظمة لإحساسه بالعجز إلى درجة أن صاحب الضمير النـزيه يتصور مسئوليته عما يجري، لأنه لم يكن يحدث لولم يتخل هو نفسه عن مداره ويتحول بتدبيره السيئ إلى واحد من سلالة الرخويات الفندقية!

حالة فندقية واحدة تعفي سجينها من كل هذا؛ إذ تيسرت عبقرية معمارية لأحد الفنادق المغربية جعلته مثل متاهة بورخيسية. وكنت قد ذهبت في ندوة لم أعد أذكر موضوعها لأنني لم أحضر أيًا من جلساتها التي أقيمت في قاعة ما بالفندق ذاته؛ فقد أنفقت أيام الضيافة الأربعة في البحث عن غرفتي التي كنت أجدها في كل مرة في مكان مختلف دون أن يتسرب إلي أدنى إحساس بالشك في ذكائي، لأن نزلاء الفندق الآخرون يفعلون الشيء نفسه، كما أن موظف الاستقبال الذي تعلمت كيف أعود إليه لطلب المساعدة ـ كنت أفعل ذلك بالدوران حول الفندق بعد الخروج من أقرب باب طوارئ ـ دعَّم ثقتي بنفسي عندما أخبرني أن بعض العاملين بالفندق يواجهون المأزق نفسه.

ولم تكن خبرة سيئة أبدًا، فقد حرم هذا الفندق الضجر من الانفراد بي، كما أهداني فصلا في رواية!

ـــــــــــــــــــــــــ

* فصل “مصايد الوحشة” من كتاب الأيك.