يبدو الأمر مخجلاً عندما ننخرط في نقاش فكري، في وقت تتدافع فيه نوافير الدم من أعناق تحزها داعش، لكن دائرة الدم ليست بعيدة عن مأزق الثقافة العربية، كما بدا واضحًا في معرض الكتاب هذا العام؛ وهو مأزق الانقسام الحاد بين جيل قديم من الأدباء والمفكرين يؤكد موت الثقافة العربية قياسًا على توزيع كتبهم أو لا ندري على ماذا، وبين جيل يقرأ كتبًا شديدة الخفة وبكثرة مذهلة.
إن كانت الخفة جريمة فمن تسببوا فيها كثر، بينهم بالطبع الذين تصدروا مشهد الكتابة العربية دون وجه حق وصرفوا القراء. هؤلاء، جناة أصليون، لكنهم أنفسهم مجني عليهم من جهة أخرى؛ فهم جناية دولة ما بعد الاستعمار الأجنبي، حيث لم يكن الضباط الشباب يرتاحون إلى المخضرمين من أمثال طه حسين والعقاد، فاصطنعت الثورة كتابها ونفخت فيهم، ثم جاءت الوفرة النفطية والمنافسة بين الديكتاتوريات الثورية لتحاول إثبات شرعيتها من خلال وجود أعداد كبيرة من الأدباء في مهرجانات ومؤتمرات وجوائز، وكأن هذا الجمع بديل صناديق الانتخابات غير الموجودة أو الموجودة صوريًا.
وقد احترفت فئة من الكتاب التبادل النفعي مع السلطة، هذه الفئة تجدها في كل المؤتمرات، وقد وطنت نفسها على الحديث بما يليق، ورسخت سلوكًا فكريًا وأخلاقيًا أفقد الناس الثقة في المثقف، ذلك لأنه لم يعد يرى الصورة كاملة، بل من الزاوية التي ينظر منها السياسي ورجل الأمن. ولأن هذا النوع من المثقفين يقضي على كرسي الطائرة أكثر مما يقضي على مقعد القراءة والكتابة، فقد عاش كل منهم على جملة أو عدة جمل قليلة، يكررها في كل مكان متوهمًا أنه فيلسوف ينطق بالحكمة!
وعندما وجدوا أنفسهم مثل أنبياء بعثوا لهداية شعوب تتكلم لغات أخرى بشرونا بموت الثقافة وقالوا إن هذا سببه عيب أصيل في بنية العقل العربي القاصر بطبعه، وإذا ما تحدثوا عن الإرهاب فمنهم من يقول إنه نبت شيطاني، ومنهم من يعتبره نتيجة لتراث الإسلام الدموي!
القول بقصور العقل العربي هو قول عنصري، يتطابق مع أقوال المستشرقين الذين مهدوا للاستعمار كما يتطابق مع مزاعم الصهيونية لتبرير استمرار احتلال فلسطين، وهو باب للرضى الغربي عن الحالمين بالجوائز العالمية. وأما إلقاء مسئوليته تفريخ الإرهاب على تاريخ الإسلام، فقول يخدم به المفكر الألمعي سيدين معًا: السلطة المعاصرة بإعفائها من مسئولياتها والغرب الذي يسعده شيطنة المسلمين بشهادة شاهد منهم.
والغريب أن يردد عرب هذه المقولات العنصرية التافهة بعد أن أبطل إدوارد سعيد مزاعم المستشرقين عن العقل العربي، والغريب اجتزاء صفحات الدم من كتاب تاريخ الدولة الإسلامية، بينما هو تاريخ دول وفيه ككل تواريخ الدول المسيحية دم وتسامح وتفكير واختراع وضحالة ومتعة وحرمان.
والمذهل أن أربع سنوات من الدم زلزلت كل شيء ولم تهز شعرة من قناعات تلك الفئة الواثقة من نفسها، التي تدوس على أحلام الشباب صدفة، وتدوس عمدًا وللمرة الثانية على قامات فكرية حافظت على حياة هذه الثقافة؛ فقد داستها أولاً عندما تصدرت المشهد عنوة وتدوسها ثانيًا عندما تستمر في تجاهل وجود هذه القامات.
والمثقف المحمول جوًا معذور، ربما لم يسمع عن رهبان من أمثال جمال حمدان وهادي العلوي ونصر حامد أبو زيد.
والمشكلة أن المفكر المحمول شديد الاعتزاز بقناعاته، وليس لديه من يقول له: عيب..اخرس!