مع ذكرى ثورة تونس: ثورات وشهداء العرب..في التشابه والاختلاف

تونس: ثورة تجري
تونس: ثورة تجري

في مثل هذا اليوم اندلعت ثورة تونس، الأكثر توفيقًا بين ثورات العرب؛ فتونس الدولة الوحيدة التي مضت في مسار مختلف عما ثار التونسيون ضده، بقية الثورات انتكست، إما بتحول ورمها الحميد إلى سرطان إرهابي خبيث كما في سورية واليمن وليبيا، وإما بالتفاف الحكم وعودته مجددًا كما في مصر.

والحق أنها كانت ثورات وتطلعات مشروعة، والذين ثاروا كانت لديهم أحلام مشروعة، ولم تزل.

بين ثورات العرب كانت هناك تشابهات واختلافات فرضتها طبيعة النظام القائم وطبيعة الجغرافيا، فمن يتأمل شكل الحشد وأساليب الإعاشة في ساحة الحرية في صنعاء، ومن يرى حشود سورية الزاحفة يتذكر ليبيا.

مصر: ثورة مقيمة وشهداء غير مرئيين.
مصر: ثورة مقيمة وشهداء غير مرئيين.

ثورة تجري

ـــــــــــــــــــ

التونسيون ألهموا العرب لحظة البدء، وألهموهم وسائل الكر والفر، أساليب مراوغة الشرطة، ووسائل الوقاية من الغازات السامة وإسعاف المصابين.

الكوكا كولا، الشيطان الأعظم بالنسبة لمناضلي اليسار على مدى عقود، صارت ترياقًا ضد سموم القادة الملهمين، تغسل الوجوه لتعادل مفعول الغاز. وللمفارقة؛ فالقنابل التي تقاومها الكولا مصنوعة هي الأخرى في الولايات المتحدة.

حروف USA   مطبوعة بلون أزرق بارد يبقى واضحًا على صفيح القنبلة بعد الإطلاق.  لم يفلت الملهمون السفهاء ولا الثوار من مس الأمركة، في لحظات احتدام المواجهة بين الليل والنهار.

قلة الراحة، إلهام تونسي آخر. لم تهدأ ثورة تونس، عاشت للكر والفر حتى لحظة فرار الديكتاتور. بدأت الثورة بالنار في جسد البوعزيزي، وظلت مستعرة.

الثورة في ليبيا هي الأخرى لم تعرف الراحة، لأنها ثورة على ثورة. الثائر الحقيقي يطارد ثائرًا مزيفًا، والشعب الواقعي يطارد  شبح رئيس مع شبح شعب من المرتزقة، رئيس غير موجود عمليًا “لو كنت رئيسًا للوحت باستقالتي في وجوهكم” لكن أعماله تدل عليه مثلما تدل على الآلهة والشياطين أعمالهم.

رحلة طويلة للقذافي من البادية إلى أنفاق العزيزية، أربعون عامًا من المغامرات والاندفاع في كل اتجاه، ولا يمكن للثورة الحقيقة أن تستقر وهي تطارد شبح ثورة تتحرك!

اليمن: ثورة مقيمة طويلة النفس.
اليمن: ثورة مقيمة طويلة النفس.

الثورة السورية لم تعرف ميدانًا هي الأخرى، ليس لأنها تطارد شبحًا كالثورة الليبية، بل لأن الشعب غير موجود ليس بنظر بشار فحسب، بل بنظر أبيه. لا يوجد ميدان واحد في المدن السورية يمكن التجمع فيه، باستثناء ساحة سعدالله الجابري في حلب البرجوازية الراضية التي تأخر انضمامها إلى الثورة إلا بعد أن تحولت إلى حرب. لكن افتقاد الميدان ليس السبب الأساسي في ركض الثورة الثورية، بل عدم وجود الشعب بنظر النظام. الجموع التي شاهدها العالم تغني ليست شعبًا بل مجموعات من الشبيحة وليس بين الشبيحة والدولة إلا قانون الكر والفر.

ثورة مقيمة:

ــــــــــــــــــ

وعلى عكس الثورات الراكضة، هناك الثورة المقيمة.  ثورة اليمن هي الأكثر شبهًا بالثورة المصرية. تشكيل لجان النظام والإعاشة والطبابة والإعلام، كتابة الشعارات، جلب الخيام، قبل أن يصبح الميدان مكانًا للاحتفالات الغنائية والخطابة وإلقاء الشعر، وما تستلزمه الإقامة في الميدان من وجود الباعة جائلين جاءوا يسترزقون من الثورة، ويريدهم الثوار ليس فقط من أجل شراء ما يحتاجون لعيشهم، وإنما لبث مظاهر الحياة الطبيعية،  ليبعثوا برسالة الصبر إلى الديكتاتور: “مش هنمشي، انت تمشي”.

الثائر في الثورة المهرولة مجرد هدف يتحرك تحت مرمى نيران القناصة وهراوات الجنود، الثائر وحيد مهما اتسع الحشد ومهما اقترب الجسد من الأجساد الأخرى فهو سر مغلق على صاحبه، وحياته وموته قدر شخصي، يرى القهر كما لو كان استهدافًا شخصيًا.

في الثورة المقيمة الثائر بشر؛ ذات لها سماتها التي تختلف وتتفق مع ذوات الآخرين، الدفاع عن أرض محددة يخلق التضامن، يتوحد شعب الميدان في كيان واحد. الميدان مدرسة للتعايش والقبول بالآخر، يردد الملحدون فيه اسم الله ويتخلى المتدينون فيه عن تحريم الغناء.

يصبح الكل في واحد داخل الميدان حتى تنجح الثورة ويفرق استفتاء الدستور شمل الثائرين، ويعودون أشتاتًا: نعم للمؤمنين ولا يصوت بها الكافرون!

سورية: ثورة تغني سرقها الإرهاب .
سورية: ثورة تغني سرقها الإرهاب .

والشهداء أنواع:

ــــــــــــــــــــــــ

 

الاستلهام لايعني التطابق الكامل، وكما توجد فروق في الحياة يوجد مثلها في الموت.

في ساحة الحرية باليمن، تلتهم الكامير جثامين الشهداء، عيون مفتوحة على ألم لحظة الموت، عيون وجدت من يغمضها. ودائمًا الدم ينبيء عن مكان رصاصة أو طعنة غدر. الجثامين الليبية معروضة هي الأخرى، ربما لأنها أكثر من أن تختفي.

في ميدان التحرير بالقاهرة يقع الشهيد بجوارك، ويُسحب من الموقع من دون أن تعرف إن كانت رصاصة قد اخترقت صدره أم هي حالة إغماء بسيطة. الشهيد في الثورة المصرية خبر ينشر لاحقًا.

لا يحب المصريون استعراض الجثامين حتى لو سقطت في سبيل الوطن. الجثمان الذي تعفن على سرير الحكم وحده ظل يستعرض نفسه، مذكرًا المصريين بالضربة الجوية الأولى التي تمددت على أيدي مزوري التاريخ لتبتلع نصر اكتوبر تشرين 1973.

ثوار التحرير كانوا يطعمون الكاميرا وجوه أسراهم من البلطجية، بدلاً من الجثامين العزيزة.

ليبيا: من أنتم..من هو؟!
ليبيا: من أنتم..من هو؟!

السوريون كذلك لا يستعرضون الشهداء، لكنها ليست إرادة الثوار هذه المرة، هي إرادة حكم العائلة التي تقول للشيء كن فيكون، وإرادتها تقتضي أن يكون الشهيد غير مرئي. و عندما يصر المشيعون على وجود الشهيد ويخرجون لتوديعه، يطلق الجنود النار على موكب الوداع. لا اعتراف بالمودع ولا بالوديعة العائدة إلى أمها الأرض.

هل تفعل العائلة ذلك لأنها تعتقد أن الجثمان الذي لم يصور لم يمت؟ هل هو الخجل من عدم الدقة في التصويب التي جعلت رصاصها يضل الطريق فيتجه إلى درعا بدلاً  من الجولان؟!