نايجيلا لاوسن.. إغواء الطاهية الوحدانية

نايجيلا1
نايجيلا تأخذ الطبخ بجدية أكبر، ويراها الرجال وهي تبتكر بين القدور، ومن حسن حظ النساء الغيورات أن رجالهن لا يستطيعون رؤية ابتكاراتها الأخرى، على رغم أن صانع البرامج، يقدمها أحياناً في لقطة بين الملاحف

من اعتادت تدليلي بـ “بابا” أرسلت إليّ برسالة قصيرة: افتح على قناة فتافيت.

رددت عليها: أراها، إنها تقص البقدونس!

كنت أتصور أن إغواء نايجيلا سر رجالي خاص، فإذا بها مكشوفة للمرأة، وتشكل هماً نسائياً؛ حيث اكتشفت الزوجات أن مصادر الإغواء التي تأخذ الأزواج بعيدًا عن أسِرَّتهن،  لم تعد قاصرة على قنوات الدرامًا والطرب والأخبار فقط، بل وفي برامج الطبخ أيضاً.

نايجيلا2
نايجيلا ستهدد عاجلاً أو آجلاً السلام في أي بيت تدخله، بسبب هبات الطبيعة التي كانت كريمة معها بشكل واضح

نايجيلا ستهدد عاجلاً أو آجلاً السلام في أي بيت تدخله، بسبب هبات الطبيعة التي كانت كريمة معها بشكل واضح، بالإضافة إلى خفتها التي لا تُحتمل؛ فإذا كانت بعض النساء المحظوظات يتمتعن بالجسد الجميل،  وبعضهن يتمتعن باللحم الناعس؛ فإن هذه الإنجليزية (المهجنة بعرق حار فيما يبدو)  تتمتع بالميزتين، وتبدو بشعرها الأسود السابل وعينيها الحوراتين من نؤومات الضحى الشهيات بالوراثة، لدى رجال أمة العرب،  أما موهبتها الشريرة، فتتجلى في فرضها المقارنة المجحفة على سيدة البيت؛ إذ لا تستطيع امرأة مكبلة بهموم أسرة صغرت أو كبرت أن تطبخ وهي تترقص وتبتسم وتغمز وتمنع نهديها في اللحظة الأخيرة من القفز إلى الحلة (وعاء الطبخ والإسم صوتياً أفضل من الطنجرة التي لا تليق حروفها الخشنة بيدي نايجيلا).

نايجيلا لوسي لاوسن نجمة برامج الطبخ تفعل كل هذا، تمسك بالشوكة والملعقة والسكين والمغرفة، وتقطع السلطة وتطبخ ببذخ من ميزانية الإنتاج في القناة التليفزيونية، لكن ما ينضج في القدر ليس أضلاع الخروف ولا أفخاذ الدجاج!

تمثل نايجيلا (مع ريتشل راي) الثمرة الأكثر إبهاجًا من ثمار الثورة التليفزيونية التي أعادت تحرير المطبخ وتقويض سلطة الرجال على هذه الأرض النسائية.

عبر التاريخ المدون كان المطبخ ميدان المرأة الأصيل، لكنه تحول مع انتشار المطاعم إلى مهنة تكاد تكون حكراً على الرجل، وليس الطهي أول ولا آخر منجزات المرأة التي يتعهدها الرجل بالتدمير.

تقاليد الأصالة التي بنتها المرأة حبة فلفل فوق قشرة قرفة، في إبداع خلاق أساسه الحب ضاعت في المطاعم التي حولت الطهي إلى صناعة بخطوط إنتاج تكفي الأعداد الكبيرة من اللاجئين خارج منازلهم.

وكان لابد أن تبدأ سيطرة الذكور على تلك المصانع التي تتطلب ساعات عمل طويلة ومجهودًا شاقًا لا تملكه المرأة، التي ظلت تطبخ في البيت.

أخذ الرجل يطبخ للغرباء، والمرأة تطبخ لحبيبها. وظل الفرق بين طبخ المرأة وطبخ الرجل، يشبه الفرق بين لوحة من يد الرسام ومستنسخ من آلاف النسخ تنتجه المطبعة من الأصل ذاته.

هذه القسمة التي سادت عالم الطبخ، طوال عقود، تعرضت للإهتزاز مؤخراً بفضل برامج الطهي، ثم القنوات المتخصصة التي كانت مضطرة لتأنيث مطابخها كي يعول عليها المشاهدون. حررت تلك القنوات المطبخ من احتلال الرجال وأعادته مملكة خاصة للمرأة، حتى وإن لم يتحقق الجلاء الكامل للرجال؛ فقد تم تقليل أعدادهم  على طريقة إعادة انتشار الجيوش المحتلة، وتم تحديد وقت إقامة الرجال في أقل من ربع وقت الإرسال.

أربعة وعشرون ساعة من البلل المبارك بين يدي النساء: قشدة مخفوقة، حليب، زلال بيض، شيكولاتة ومرق حار.

عاد المطبخ، ركن البيت الأكثر إيروتيكية من غرف النوم، مرة أخرى مجالاًً حيويًا للنصف الأكثر إحساسًا والأقوى ذاكرة من السلالة الآدمية، المرتبة هي الأخرى درجات؛ فالعلاقة بين المتع الحسية، تعرفها بشكل أفضل الشعوب التي تتمتع ألسنتها بذاكرة جيدة، والمرأة بشكل أخص.  وقد جعلت إيزابيل الليندي من العلاقة بين الطعام والجنس كتاباً باذخاً، ربما يكون الكتاب الثاني بعد “باولا” الذي وضعت فيه جزءاً من قلبها.

ورغم أننا يمكن أن نرى صدى كتاب “أفروديت” لإيزابيل الليندي في قناة الطهي العربية “فتافيت” وفي القلب منها برامج نايجيلا، فإن الفرق بين المرأة الكاتبة والمرأة الطاهية أكبر من توابل الإثارة التي تجمع بينهما.

إيزابيل تقدم نصها، بوصفه عملاً جماعياً، اشتركت فيه (هي كاتبته) وروبرت شكتر (الرسام الذي اختار مجموعة اللوحات المصاحبة للمتن) وبانتشيتا ليونا (بوصفها الطاهية التي اختارت وصفات الطعام) كما يحضر في النص عشاق إيزابيل من الرجال، وناشرتها التي اعتادت الكاتبة أن تدللها ببعض الأطباق المخصوصة (وإن كنت لا أحب التركيز على هذه النقطة بالذات حتى لا يبالغ ناشرونا في استغلالنا أكثر مما يفعلون الآن).

 

هذه الحالة الجماعية من المشاركين والمروي عنهم في الكتاب تجعل منه حفلاً باخوسياً مبهراً، مقبلاته كلها في بلاغة الجملة لدى كاتبة توحي إلينا من اللحظة الأولى بأنها لم تعد صالحة للحب وأن ما تفعله هو محاولة يائسة لاستعادة الزمن المفقود: “أندم على الحميات، الصحون اللذيذة التي رفضتها بطلاناً، تماماً كما أحزن على فرص ممارسة الحب التي تركتها تفوتني لانشغالي بأعمال عالقة، أو لفضيلة متشددة. أكتشف وأنا أتنزه في حدائق الذاكرة أن ذكرياتي مرتبطة بالحواس”.

بالتأكيد، لا تقف ذاكراتنا عند حدود تلافيف خلايا المخ الطرية، بل تنتشر على خلايا جلودنا، وعلى خلايا الشم بأنوفنا وخلايا الذوق على ألسنتنا التي قلما تبوح بما تعرف، لكن هذه الكاتبة التي تتذكر عشاقها وأكلاتها بالجملة، تختلف عن نايجيلا نجمة التليفزيون التي تطبخ وحيدة، وتومىء وحيدة وهي تطبخ، وتأكل معظم ما تطبخه، لأنها تأكل وحيدة أيضاً، مستلقية في حضن اللاب توب أحياناً أو ممسكة بجريدة ليس فيها طزاجة وجبتها.

بالمحصلة نايجيلا وحيدة دائماً، ونرى أثر الأكل المنفرد لوجباتها الشهوانية في اكتناز جسدها.

إيزابيل، تختلف عنها في نقطة أخرى؛ فهي لا تمتثل للوصفات؛ بل إن الكتاب يبدو معارضة ساخرة لقواعد الطبخ الواقعية والشعوذات المطبخية، عبر مئات من الوصفات الخطرة للإمساك بالحبيب، أو اصطياد حبيب محتمل من معدته.

بسخريتها من الوصفات الدقيقة للطعام تنتصر الليندي للكتابة، وتقول إن أجمل ما في الحب، هو الإهمال والاسترخاء والبعد عن القواعد المضجرة، والابتكار أمام القدور وبين الملاحف.

نايجيلا تأخذ الطبخ بجدية أكبر، ويراها الرجال وهي تبتكر بين القدور، ومن حسن حظ النساء الغيورات أن رجالهن لا يستطيعون رؤية ابتكاراتها الأخرى، على رغم أن صانع البرامج، يقدمها أحياناً في لقطة بين الملاحف وهي تستعد لصنع إفطار حلمت به، لكنها هناك، في الفراش، تكون وحيدة أيضاً.

ووحدة المرأة وعد للرجل، لكن لا بأس ما دام وعدًا غير قابل للتحقيق!

————————————————————————————————–