مجاز الورد:
_________
الأغلبية منا لا تتعامل مع الورد والزهر، والأسباب أكثر من أن تحصى، مع ذلك فإن الاحتفاء بالورد من طبع اللغة العربية، التي نملكها وتنقل عنا كما كان القدماء يملكونها وتنقل عنهم.
يكاد مجاز الوردة والزهرة يشير إلى كل جميل بيننا وكل جميل فينا. عمر الورد هو عمر الشباب الأجمل، الذين نكتشفهم عندما يرحلون برصاص المستبد أو بالسرطانات التي ينشرها فساده، وعمر الورد هو للشابات اللائي يليق بهن الدلال، والوجه المورد هو الوجه المتمتع بالصحة والسعادة معا، وتاريخ ‘الوردة التي كانت’ مناسبة للتحسر على امرأة ذبلت بين يدي رجل غليظ. والوردة هي الموضع من المرأة الذي لا يمكن الإشارة إليه جهرة من دون التفاف المجاز الجميل.
غناء الورد:
ـــــــــــــــــ
منذ متى توقف الغناء العربي عن الاحتفاء بالورد؟ قد يفيدنا هذا التاريخ في تحديد الوقت الذي بدأ فيه ولعنا بالدم. كان النصف الأول من القرن العشرين حفلاً دائما للورد، حيث أفرطت أغنيات الشوام في تكديس الورد الجوري وزهور الياسمين والزنابق، بينما كانت الأغنية المصرية تتأمل طبائع الورود واحدة فواحدة. استطاع بيرم التونسي ورياض السنباطي تخليد البنفسج قصير العمر واستدرار الفرح من حزنه في ‘ليه يا بنفسج’:
حُسنك في كونك، بلونك، تبهج المقهور
اللي يضيره، ضميره، بالظلام مغمور
ليه يا بنفسج بتبهج وانت زهر حزين
وبيرم نفسه هو صاحب الدعوة إلى التعلم من الزهور:
والنرجس مال يمين وشمال على الاغصان بتيه ودلال
عيونه تقـول معانا عـذول تعالى بعيـد عن العــزال
نكاد نرى تمايل الأغصان ونحس حفيف الهواء بالأوراق والبتلات في لحن زكريا أحمد وصوت أم كلثوم، لكن الشيخ زكريا يضيف من عنده عندما يؤدي ‘شوف الزهور واتعلم، فيتبعها بـ: شوف يا بني آدم!
كثيرة أغاني الزهور في تلك الفترة وهي بالمناسبة الإشارة الخجول للمرأة وللحب. وبعد أن وطأت أقدام الجند المدينة سمعنا شريفة فاضل في ‘فلاح كان فايت بيغني من جنب السور، شافني وانا بقطف كام وردة في طبق بنور’ ولم يكن الورد في الأغنية سوى تكئة لتحالف قوى الشعب، فالفلاح قطع الموال وضحك لمن تقطف الزهور وقال: يا صباح الخير يا اهل البندر، يا صباح النور!
ولم يكن وجود مطربة اسمها وردة ليغني النصف الثاني من القرن عن غياب ورد سحقته الأقدام الثقيلة للعسكر ثم ضجيج السمسرة، حيث صار شراء الحب أسهل من تربيته والاتجاه المباشر إلى الفراش أسهل من التسبيل والالتفاف الطويل عبر مجاز الورد.
اليوم عادت الورود، لكنها عادت حزينة تبكي ورد البشر المهدرة حياته يوميا في الميادين، ألم تتنازع ثورتا تونس وسورية زهرة الياسمين عنوانا. ألم يحمل التطلع العربي إلى الحرية اسم ‘الربيع’ الفصل الصالح لكل الزهور؟
زهرة المستوحش:
ــــــــــــــــــــــــــ
الليليوم، وردة القلب الوحيد تعينه على التشبث بالحياة. تنمو حتى بعد قطفها مثل طفلة رواية ماركيز ‘عن الحب وشياطين أخرى’ التي واصل شعرها نموه في القبر. البراعم التي تأتي من الحقل مغمضمة كنهود العذارى ترنو إلى القلب الوحيد وتتفتح شيئا فشيئا حتى تصير بتلاتها بوقا ينادي وفما يُقبل بسبعة أقلام مشرعة كألسن. وعندما تستشعر النهاية تلقي بطلعها مثلما يلقي المحتضر بدفقة الحياة الأخيرة.
ورد المراسم:
ــــــــــــــــــــ
بينما كانت سياساتهم الغليظة تقود مواطنيهم إلى كراهية الحياة والزهور، كانت اجتماعاتهم لا تخلو من الورود التي يراكمها أمامهم موظفو المراسم بوفرة إجرامية. هي غالبا من الورود البلدية (الجورية) ذات التحديقة الوقحة، وهي نفسها ورود الجنازات.
ترى في الاجتماع الواحد كميات تكفي لإطعام سبع بقرات سمان وسبع عجاف، ولا ترى في القاعة من ينظر إليها. الغريب أن الاجتماعات الحالية التي يعقدها القتلة لإعلان التصميم على الاستمرار في القتل لا تخلو من الزهور المصلوبة في باقاتها الضخمة. وليس هناك من ينبه الآمر بالقتل كي يلقي نظرة عليها، وليس هناك زكريا أحمد ليوبخه: شوف يا بني آدم!
ورد للبشير:
ـــــــــــــــــ
في خيمة أقل فخامة من خيمة العقيد استقبل مصطفى عبدالجليل الرئيس السوداني عمر البشير، تفصل بينهما على الحشية الواحدة باقة ورد كبيرة وتحفهما باقتان أخريان. لم ينظر المضيف إلى الورد ولم ينظر الضيف الذي ذهب متأبطا عصاه، على هيئة تستحضر العشب لقطيع الراعي لا الورد. ولذلك فقد كان خيار الورد هو الخطأ الثاني في قرار استقبال ممثل ثورة شعبية لمطلوب للمحكمة الدولية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*القدس العربي في 2012-01-13