يحيى حقي..عقيدة التخفي

يحيى حقي
17 يناير 1905 – 9 ديسمبر 1992

سحر الكتابة وعظمتها يدركهما غير الكاتبين أكثر مما يستطيع بعض الكتاب أحيانا.

السحر يجر بعض الطغاة من فوق عروشهم، كي يتمموا مجدهم بكتاب.

وعظمة الكتابة تكمن في كونها تدافع عن نفسها ضد المتطفلين المسلحين بسلطاتهم، إذ تنال من بؤسهم وتمسخرهم بأكثر مما تستطيع الرعية الكارهة.

سحر الكتابة وعظمتها هما أيضا ما يضعان الكاتب الحق في مكانه ولو كره؛ يبقيان يحيي حقي  حاضرًا في الغياب، هو الذي عاش مناوئا لفكرة نجومية الكاتب. فهل يدرك الكتاب هذه الأمثولة ويعاركون نصوصهم بدلا من عراك بعضهم البعض؟!

مجايله توفيق الحكيم سبقه إلي أوروبا وعاد مستجلبا صورة الكاتب نصف الإله المعزول في برج عاجي وله أمارات اجتماعية تجعل منه أسطورة عندما يتلطف وينزل إلي الأرض: العصا والبيريه،  والفخر بما يعتبره البشر الفانون عارا؛البخل وكره المرأة.

ولحقه يوسف إدريس في زمان الحراك الطلابي وازدهار السينما الذي يلعب برأس الكاتب:لماذا لا يكون نجما (كعمر الشريف الصحيح وليس كعبد الحليم حافظ معتل البدن).

بين الاثنين لبد يحيي حقي مثل الأوسط في شجرة عائلة؛ أعفي نفسه من أعباء الحياة معتمدا علي أب مسيطر وابن متطلع؛ يسعده أن يتوه بين الزحام بجرمه المنمنم الأنيق.

ظل حتي أيامه الأخيرة يتنقل كما يتنقل بسطاء الناس، بلا سيارة خاصة، يتأبط ذراع زوجته التي أنبتت العشرة بينهما صلات قربي في السمت، يتأملان واجهات محال الملابس في وسط القاهرة، يشتريان الصحف، ثم ينعطفان إلي حارة التوفيقية، حيث سوق الخضر والفاكهة ينتقيان حاجتهما برضا وارتياح من يمارس هواية محببة أو طقسا دينيا. فإن اكتشف أحد وجوده يفزع في البداية كعصفور، ثم ما يلبث أن يطمئن فيبش، ويسأل عن الصحة والأحوال.

يرتبك عندما يكون مكشوفا ومرئيا علي عكس ما يرجوه الكثيرون، ولا يمكن أن يكون انتظاره لنشر كتابه الأول عشرين عاما من بدء نشر قصصه ومقالاته في المجلات والصحف دون دلالة. كما أنه كان الوحيد الذي رفض الكتابة في الأهرام.. حبة مسبحة تمردت علي الخيط الذي نظم فيه هيكل الكبار في طابق واحد أسماه برج العظماء فكان لحسين فوزي وزكي نجيب محمود وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس ونجيب محفوظ.

 

 

رفض حقي كان ناتجا عن عقيدة التخفي، وليس عن عدم الإيمان بالمقال كنوع كتابي، فما كتبه في هذا النوع الأدبي كان أضعاف ما أعطي في الرواية والقصة. ولم يمض بلا أثر، فمازلنا حتي اليوم نقرأ ما جمعه الناقد الراحل فؤاد دوارة من مقالات يحيي حقي التي نقب عنها في مجلات قليلة الانتشار وأخري لم يسمع بها أحد من قبل.

 

حتى فيما يتعلق بنشر القصص لم يسع إلى “الأهرام” مكتفيا بصحف مثل “المساء” و”التعاون” ومجلات لم يسمع بها أحد، تصدر عن فرع لمصلحة الضرائب أو فرع نقابة عمالية أو مركز شباب، خوفا من النجومية وضنا بالكتابة التي يعتبرها سرا يودعه أقل عدد ممكن من القراء!

وقد ظل ملتزما بالزهد في النجومية، متطيرا من الجموع الكبيرة ونجح في فرض رغبته التي مدها خطوات أبعد من حياته نفسها؛ إذ أوصي بألا يسير أحد في جنازته. وبهذا الموت الأكثر خفة من حياته أُبطلت أحكام يحيي حقي الإنسان، وتقدم الأدب متحررا من تقشف صاحبه يمارس حياته التي يستحقها.  وإلى ماشاء الله سيفرض نص يحي حقي حضوره الواثق كشاب تمرس علي الصعاب في حياة ذويه، بينما اصطحب كثير من كتاب الصخب إلي قبورهم كتاباتهم العليلة التي لم تلوحها شمس الحياة.