بوسة منك، كان بوسعها أن تبريء عيني. أين أنت الآن!
بوسعي أن أفتح لك الويب كاميرا لتشاهدي، أثر العضة المدمرة في جفني المرتخي كجفن شيخ كبير. الطبيب وصف دهاناً وقطرة، ونصحني بإراحة عيني قليلاً، فانتهزتها فرصة لترتيب المكتبة، والإفراج عن أكداس الكتب المحتجزة في المطهر. لكن هذا الإجراء لم يكن ممكناً من دون قراءة؛ فمساحة الأرفف محدودة، ولابد من الاطمئنان إلى عدالة الحكم بإرسال هذا الكتاب أو ذاك إلى الجنة أو الجحيم.
لم أحلم يوما بأن تكون مكتبتي أكبر مما هي عليه، أحلم فقط بأن أجد وقتا للعيش فيها أكثر مما هو متاح لي الآن. أن أقرأ ما اشتريته يوما بغرض القراءة، وليس لصنع متاهة. لكن ما أثقل أن يكون الكائن مواطناً في العالم الثالث ومحبا للكتب في الوقت ذاته.
هنا، حيث لا تأخذ العدالة مجراها من تلقاء نفسها، يتعين أن يتحرك البشر كقبائل، في المستشفيات وفي المحاكم وأقسام البوليس والمدارس وأماكن الاختبار للعمل!
هذه الأثقال التي تحرقني وتعصبّك وتقولين إنني لن أصير كاتباً معها، لا أستطيع أن أتخفف منها. في كل مرة أهم بالعيش لنفسي أشعر بالضيق للتقصير، ولا أتمكن من الاستفادة من الوقت الذي تصورت أنني أنقذته بالتقاعس عن واجب عزاء، أو أي من الواجبات التي تدفعني بعيدا عن مكتبتي أياماً أصير فيها مجرد كائن عالم ثالثي يكافح من أجل تثبيت حق من الحقوق له أولأحد من أقربائه. وتتراكم الكتب أكداسا بجوار السرير، حتي أنظر في أمرها، أوبمعني أدق حتي تتلطف الحياة وتنظر في أمري، أو يلطف بي المرض الذي صرت أحبه بقدر ما يبقيني بعيداً عن تناهش الآخرين.
هذه هي نعمة عضة البعوضة التي هدّلت جفني وجعلت حبة عيني تحكني، لكنني مع ذلك لم أرحم عيني؛ فأخذت أتذوق الكتب قبل اتخاذ قرار بشأنها.
الكلاسيكيات التي تم اختبارها عبر الزمن، وبلغة كهنوتية (المشهود لها بالصلاح) لا تحتاج إلى الانتظار في المطهر كي تعبر إلي الفردوس، عرفت طريقها إلي صدارة المكتبة من تلقاء ذاتها، كما يتوجه الكبار إلي صدارة المجلس. وهكذا ذهبت ترجمة رفعت عطفة الجديدة لدون كيشوت إلي جانب ترجمة سليمان العطار، وترجمة حنا عبود لكوميديا دانتي إلي جوار ترجمة حسن عثمان.
وهناك كتب جديدة عرفت مكانها أيضاً استناداً إلي الخبرة بكتابها ومترجميها، فاستقرت في مكانة متقدمة: ترجمة صالح علماني لرواية يوسا “الجنة علي الناصية الأخري” ومختارات من يوميات أناييس نن ـ الكاتبة المغيبة في العربية ـ ترجمتها لطفية الدليمي لتأخذ مكانها إلي جوار النص النحيف “بيت المحرمات” الذي ترجمته للكاتبة ذاتها حنان شرايخة. هذا يعني إزاحة كتب أخري من أماكنها لتبدأ ـ دون أسف عليها ـ رحلة معاكسة.
لا أتذكر الآن كل الكتب التي أجبرت غيرها علي التنازل عن أماكن احتلتها في السابق، إما بسبب وجود فراغ أو لأن طريقتي في امتحان الكتب كانت أكثر تساهلا.
علي أن التوجه المباشر إلي صدارة المجلس لا يضمن حميمية خاصة، إنه مجرد نوع من مراعاة التقاليد. وبالمعــــني نفسه لا يعني المرور إلي صدارة المكتبة بلا تمحيص امتيازاً خاصاً، فقد لا يأتي الوقت لقراءة كتاب اتخذ مكانه دون تدقيق، بينما تحظى بتلك الفرصة الكتب التي لا تمر إلي مكانها في المكتبة المحدودة المساحة إلا بعد القراءة.
والفرق بين مطهر الخالق ومطهر القارئ أن عذاب الانتظار في الحالة الأخيرة للطرفين: لي وللكتب؛ لا أجد الوقت لأقرر لكل منها مصيره، ولم أعد أستطيع الحركة في غرفتي، ولا يمكن أن أضعها جزافا بلا حساب على أحد الرفوف لتبقى هناك دون فضيلة خاصة؛ فكيف يتهور القارئ ويطلب مكتبة بحجم الكون يكون عليه أن يرتبها بالعدالة الواجبة؟!
تعيدني المكتبة إلى بورخيس الذي لا تحبين ذهنيته وجفافه الروحي، قد أوافقك، لكن قراءته تمرين جيد على الكتابة. التماعاته محرضة على الإبداع، باستثناء أمنيته الخرقاء بأن يكون الفردوس على هيئة مكتبة. ومن لطف الله بعباده أنه لا يستجيب لكل نزواتهم. صحيح أن أحداً لم يعد من هناك ليخبرنا إن كان الله استجاب له أم لا، لكنني أفضل ألا يكون قد فعل؛ فالكتب العظيمة الجديدة لا تفعل سوي أن تعيد ما قالته الكتب العظيمة السابقة، والكتب التافهة لا تستحق التضحية ببساتين الفردوس السماوي لصنع مزيد من الرفوف لأجلها.
حريق عيني يزداد، قضيت النهار كله أقرأ فقرة من هنا وفقرة من هناك، مثل ذواقة في مطعم اختلطت عليه الطعوم.
يداي مغبرتان، ولا أتمنى الآن إلا شفتيك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كتاب الغواية